تمر هذه الأيام الذكرى الرابعة لجريمة اغتيال الصحفي السعودي الراحل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول في الثاني من أكتوبر 2018 بأمر مباشر من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بحسب تقرير الاستخبارات الأمريكية الذي نُشر فبراير العام الماضي و تقرير المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالإعدامات التعسفية والمنفذة خارج نطاق القضاء السيدة أغنس كالامار.
ومن المؤلم حقيقة أن أكتب أنا وغيري الكثير بعد مرور أربع سنوات على ارتكاب هذه الجريمة الوحشية دون أن تتحقق العدالة حيث لا زال مرتكبي الجريمة بعيدين عن المحاسبة وتتم محاولة إعادة تأهيلهم للعودة محليا ودوليا وكأن جريمة لم تقع.
لكن على الرغم من كل هذا، لا أعتقد أننا هُزمنا، فنحن نواجه في هذه المعركة (نحن المؤمنين/ات بالعدالة وقيم الحرية) نظام يملك قدرات وإمكانيات لا محدودة لتغطية جرائمه، ومع ذلك استطعنا رغم الفرق الشاسع وقلة الموارد والإمكانيات، تحقيق الكثير من المنجزات في هذه القضية. لعل أهمها إبقاء القضية حية ومحور أساسي في العلاقات السعودية مع الدول الأخرى، وتخليد ذكرى جمال وترميز اسمه، بالإضافة لما تحقق سابقا مثل العقوبات الدولة على الفريق المنفذ للجريمة. ورغم ذلك، فالطريق لا يزال طويلأ.
إن أكثر ما نحتاجه هو مواصلة العمل لإبقاء زخم القضية، ومقاومة جهود بث اليأس والإحباط والشعور بالعجز التي يراد من خلالها دفع الناس لتجاوز هذه المرحلة والمضي كما لو أنها حدث اكتمل وانتهى حيث لا فائدة من استمرار الحديث والعمل فيه، وهذا غير صحيح. فالمعركة من أجل العدالة طويلة ومستمرة، ولا تنتهي بتخاذل زعماء ودول أو محاكمات صورية سخيفة. فهذا الأمر واضح ويعيه الجميع حتى أولئك الذين يتغنون بعدالة القضاء السعودي.
وقد حاولت الحكومة السعودية بكل الوسائل إغلاق هذه القضية، بداية بإنكار الجريمة ونفي حدوثها، ثم محاولة اتهام خصومها بها، ثم الاعتراف بجزء من الحقيقة مرورا بسلسلة محاكمات هزلية تفتقر لكافة معايير النزاهة والعدالة، وصولا لإنهاء هذه المحاكمات بعفو مزعوم وإعلان إغلاق القضية، و ليس ذلك فحسب، بل تبع ذلك مصالحة مع تركيا نتج عنها وقف التحقيقات والمحاكمة الجارية حينها عن طريق دفع المليارات ليس بغرض تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة كما ينبغي، بل لحمايتهم والتستر عليهم.
ولعل آخر محاولات التخلص من هذه القضية كان القرار الذي صدر الأسبوع الماضي بتعيين محمد بن سلمان رئيسا للوزراء "استثناءا" من النصوص القانونية التي توجب أن يكون الملك هو رئيس مجلس الوزراء لا ولي العهد.
وهي خطوة لا تغير شيئا على المستوى المحلي السعودي، لكنها محاولة جديدة للإفلات من العقاب بحيث يستطيع محمد بن سلمان الحصول على الحصانة السيادية في القضية الفيدرالية التي رفعتها في العاصمة الأمريكية واشنطن كلا من خديجة جنكينز ومنظمة الديموقراطية الآن للعالم العربي ضد ولي العهد وأكثر من عشرين شخصا آخرين متهمين في قتل جمال خاشقجي.
مما يعني أن السبب الحقيقي لهذه الخطوة هو محاولة تحصين محمد بن سلمان قانونياً في الخارج في القضايا المرفوعة ضده، وهي تحركات كانت مصدر ضغط واحراج كبير في الآونة الأخيرة خصوصا بعد تحسين علاقته مع الولايات المتحدة. وهنا يتبين لنا بجلاء أهمية النشاط الحقوقي للاقتصاص في قضية اغتيال جمال خاشقجي بغض النظر عن النتائج.
يعتقد النظام السعودي واهماً أنه يستطيع بعلاقاته وتحالفاته واستخدامه لمقدرات البلاد وثرواتها أن يتخلص من هذه القضية للأبد وأن يفلت بجريمته من المحاسبة، ولكن في التاريخ عبرة لكل دكتاتور. فكم من جرائم ارتكبت ولم تتحقق فيها العدالة إلا بعد عشرات السنين؟ وكم من الطغاة الذين ظنوا أنهم فلتوا من المحاسبة على جرائمهم وانتهى بهم الأمر في السجون؟ فهل يعتقد ابن سلمان أنه استثناء من السنن الكونية؟
إن النضال من أجل العدالة في هذه القضية هو عملية مستمرة ومعركة طويلة تحتاج للنفس الطويل في مواجهة منظومة إجرامية وفاسدة إلى درجة أنها مستعدة لعمل أي شيء في سبيل إنهاء هذه القضية مهما كلفها ذلك، لكنها ستُهزم بعزيمة وثبات وصمود أولئك الذين آمنوا بالحرية وأقسموا أن يكونوا أوفياء لجمال ورفاقه.
المحاسبة والعدالة آتية، قد تتأخر وقد تمر بإنتكاسات ومشاكل لأسباب متعددة ومختلفة لكنها حتما آتية. قناعتي هذه ليست مجرد إيمان بالحتمية التاريخية باستحالة أن يفلت هؤلاء بجريمتهم، وإنماهي أيضا ثقة بالعمل والنضال الذي لم يتوقف منذ أربع سنوات من أجل تحقيق العدالة.
فهذا النضال سينتصر وسيأتي يوم ونرى هؤلاء المجرمين في محاكم مستقلة تحاسبهم على وحشيتهم وقمعهم وفسادهم وكل ما ارتكبوه داخل بلادهم أو خارجها من جرائم وانتهاكات. وهنا عهد مني ومن كل الشرفاء ودعاة الحقوق والعدالة في بلادنا وفي كل مكان حول العالم، ألا نتوقف يوما عن النضال من أجل تحقيق العدالة الكاملة والحقيقية في قضية جريمة اغتيال جمال خاشقجي رحمه الله، وأن نبذل كل ما بوسعنا من أجل هذا الهدف. جمال ليس الضحية الوحيدة لهذا النظام، وليس الأول، لكن بيدنا إن اتحدنا واجتمعنا على المبادئ الأساسية أن نجعله الأخير.
فجمال فهو ذلك الحر الذي ترك بلاده من أجل قلمه الحر الذي خُيّر بين الحفاظ عليه و الاضطرار لمغادرة وطنه الذي أحبه بصدق، أو بين خيانة مبادئه والصمت، أو حتى الى التحول لأداة فاقدة لكرامتها ومبادئها. ومثل جمال لا يقبل هذا الخضوع ولا يرضى التنازل عن قيمه. ولذلك خرج مضطرا ومجبرا لمنفاه الاختياري حفاظا على قلمه، وعلى استقلاليته التي لطالما كانت مصدر قلق وإزعاج للدكتاتور الصغير وفريقه الجديد رغم أسلوب جمال المعتدل ورفضه أن يوصف بالمعارض. فقد عجزوا عن شرائه واستخدامه كما عجزوا عن إسكاته بدفعه للصمت كرها أو طوعاً كما فعلوا مع غيره، ووصل بهم الإجرام والغباء أن يرتكبوا جريمة اغتياله.
فقد أحب جمال وطنه السعودية بصدق رغم كل حملات التشكيك والطعن في وطنيته ومحبته لبلاده، وكان يرى الصدق مع الوطن هو قول ما تؤمن به وإن لم تستطع اصمت " ولو تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت." فقد اعتبر، رحمه الله، أن الصدق وكلمة الحق هي الحب الحقيقي للوطن، وأما الكذب والتدليس والتطبيل فهي الخيانة الحقيقية. وهو محق في ذلك وخطابه الوطني هو الذي أغضب أولئك الفاسدين المستبدين الذين يريدون احتكار مفهوم "الوطن" في زمرة مجرمة اختطفته في ليلة سوداء وعاثت فيه وفي شعبه الفساد والخراب.
لقد آمن جمال بصدق بمبادئ وقيم الربيع العربي وسعى لخدمتها بإخلاص حتى آخر لحظاته رغم الكلفة العالية والقاسية لهكذا مواقف من رجل بتاريخه ومكانته لكنه لم يهتم وواصل الدفاع عما يؤمن به بشجاعة ملهمة ومثيرة للإعجاب.
كان جمال ابن الربيع العربي الوفيّ والمخلص لمبادئه وأفكاره ولتضحيات أبطاله، وحين كتب له أحدهم مرة أن الربيع العربي خرب ودمر وأفسد كان رده : "الربيع العربي لم يدمر .. من حاربه وتأمر عليه هو المدمر، وإلا لكنت اليوم ايها الشاب تنعم بعليله وحريته وتسامحه ووظائفه وخيره".
كما كتب عن حرب اليمن "على ولي عھد السعودية حفظ كرامة بلاده بإنھاء الحرب المتوحشة في الیمن" وهو موقف مشرف لم يتجرأ غيره من المثقفين السعوديين أن يصرحوا به. وكتب عن نشطاء وناشطات حقوق المرأة دفاعا عنهن، وكتب عن الإسلاميين المعتقلين، وكتب حول أهمية الديمقراطية لبلاده وللمنطقة. وسعى لتحرير الرأي العام من سيطرة الذباب الإلكتروني بمشروع النحل الإلكتروني، وبادر لجمع المنفيين العرب من كل التيارات في مؤسسة واحدة تعمل من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي والتي تأسست في الذكرى الثانية لرحيله.
"ثم ختم حياته بمقالة وكأنها وصية لأمته و رسالة وداع عنوانها: "أَمَسُّ ما يحتاجه العالم العربي هو حرية التعبير،" يجسّد هذا المقال تمامًا "التزام جمال وشغفه بالحرية في العالم العربي. حرية ضحّى بحياته في سبيلها،" كما كتبت المحرّرة كارين عطية.
هذا جزء يسير مما قدمه بعد خروجه وأدعوكم لتصفح وقراءة ما كتبه في الواشنطن بوست باللغتين.. (هنا).
أراد جمال أن يكون صوت الناس هو الأول في بلدانهم عبر الديمقراطية لا عبر صوت الفرد المستبد الذي يقمع الجميع باسم الإصلاح، ودافع عن الحريات الأساسية في الرأي والتعبير والفكر والمعتقد وغرد كثيرا متغنياً بالحرية والعدالة وأهميتها.. وقد قال في تعريف الحرية: "الحرية هي تمسكك بما تؤمن به ، حتى لو صمت او كنت في السجن ، وتفقدها عندما تقول ما يريده غيرك ولو كنت بقصر منيف."
نستذكره اليوم في ذكراه الرابعة ونقول نعم رحل جمال بعد أن قال كلمته لكنه ترك لنا إرثا كبيرا من الأفكار والمواقف التي سيخلدها التاريخ، و في اعتقادي فإنّ أفضل طريقة لتكريم إرثه وتضحياته هي إحياء ودعم المبادئ والقيم التي قدم من أجلها الكثير. والأفضل من ذلك هو إقامة دولة الحقوق والمؤسسات في بلاده كما أراد وسيأتي هذا اليوم عاجلا أم آجلاً.
كان جمال مثالا وقدوة ومصدر إلهام للكثيرين، وسيأتي يوم ينصفه الناس والتاريخ ويكون هو وغيره من الأبطال مثل عبدالله الحامد وقادة حركة حسم رموز النضال من أجل الحرية لتمنحهم الأجيال القادمة التكريم الذي يستحقون.
وأود أن أختم بما كتبه الراحل د.شفيق الغبرا رحمه الله: "رحم الله جمال خاشقجي، إستشهد من أجل الكلمة الحرة. غطى صوته الحالم بوطن رحيم يلتزم كرامة شعوبه أرجاء المعمورة . قدم جمال خاشقجي في حياته نموذجا للموقف الحر المستقل. نموذج جمال خاشقجي الصادق إكتسب زخما ابديا عبر استشهاده. رحمه الله، لقد فتح بابا للحرية لن يغلق."
باب الحرية لن يُغلق.
رحمك الله يا جمال وسلامٌ عليك في الشهداء حين وُلدت وحين قلت كلمتك وحين مشيت.