لطالما سحرتنا أفلام هوليوود حتى أصبح الكثير منا يسافر لدول مجاورة ليشاهد فيلمًا في السينما. أما اليوم ومع التغيرات الحاصلة في المملكة، أصبح لدينا صالات سينما كثر حتى أصبحنا ننافس الدول التي نزورها من أجل السينما في عدد صالات السينما المتاحة والأفلام المعروضة. فمثلا فيلم "الموت على ضفاف النيل" مُنِعَ عرضه في الكويت ولبنان وتونس والأردن لأن مجندة الاحتلال الصهيوني السابقة "جال جادوت" لعبت دور البطولة فيه بينما عُرِضَ في المملكة.
كانت السينما إحدى الكروت والأوراق التي استخدمها محمد بن سلمان ليظهر كقائد منفتح يطمح لتغيير المملكة إلى الأفضل. لكن إن كانت السينما علامة انفتاح لنظام ما، فيمكن أن أنقول أن السينما الإيرانية الحالية أكثر انفتاحاً من السينما السعودية. فمثلًا مهرجان فجر الدولي للأفلام يعقد كل عام في إيران تزامنا مع ذكرى انتصار ثورة الخميني على نظام المنفتح الشاه.
وللأفلام الإيرانية حضور دولي قوي، حيث حصد العديد من الأفلام الإيرانية جوائز دولية عدة.
بدأت المحاولات لصناعة الأفلام في المملكة منذ عام ٢٠٠٦م - على الأقل - مع انطلاقة مهرجان جدة الأول للعروض المرئية (مهرجان جدة للأفلام) برئاسة المخرج السعودي ممدوح سالم. كان تركيز المهرجان على الأفلام السعودية والخليجية وعلى الرغم من ذلك لم يسلم من الانتقادات اللاذعة حينها والمطالبات بإلغائه، فهبَّ صالح بن علي التركي (رئيس الغرفة التجارية حينها) عام ٢٠٠٨م للدفاع عن المهرجان ووصف المحرضين بالجبناء وعديمي الشعور بالمسؤولية. وجاءت المحاولة الثانية لإيجاد حاضنة محلية لإنتاج الأفلام السينمائية عام ٢٠٠٨م تحت مسمى مهرجان أفلام السعودية في الدمام والذي أقامه ويرأسه الشاعر أحمد الملا. لم تستمر هذه المحاولات طويلاً حيث أن وزارة الداخلية منعت إقامة مهرجانات الأفلام عام ٢٠٠٩م بعد أن صدرت توصية مفتي المملكة عبدالعزيز آل الشيخ بأن السينما تضر المجتمع وتنشر الفتن فيه، مع أن المهرجان كان محافظاً مقارنةً بالمهرجانات التي تقيمها وزارة الثقافة اليوم.
استمرت المحاولات الفردية لإنتاج الأفلام على الرغم من منع إقامة المهرجانات السينمائية. كانت هيفاء المنصور أول مخرجة أفلام سعودية حيث أخرجت فيلم "وجدة" عام ٢٠١٢م، والذي تم تصويره بالكامل في السعودية. كان فيلم وجدة أول فيلم سعودي يتم ترشيحه لجائزة الأوسكار كما رُشح لجائزة مهرجان الأكاديمية البريطانية للأفلام (بافتا) وحصد ثلاث جوائز في مهرجان البندقية للأفلام. وبعد أن لمع نجم المنصور انتقلت إلى لوس أنجلوس حيث عملت على صناعة المزيد من الأفلام والمسلسلات.
وحين نتحدث عن السينما في السعودية ينبغي لنا ألا نغفل عن دور وجهود المخرج التنفيذي السعودي القادم من هوليوود محمد التركي (شقيق علي التركي المذكور في مقال "لا ترهن درعك" المنشور على صحيفتنا، وعمه صالح التركي المذكور في مطلع المقال والمسؤول عن تهجير سكان مدينتي جدة ومكة المكرمة). قبيل ذهابه إلى هوليوود لم يكن له أي نشاط في عالم الأفلام بعكس المخرجة السعودية هيفاء المنصور مثلاً. عقب إنهائه دراسة التواصل الإعلامي والسياسة عمل في شركة والده لفترة وجيزة، ثم قرر أن يلتحق بأكاديمية نيويورك للأفلام، الأكاديمية التي لا ترد طالباً طالما أنه سيدفع رسوم الدورة. فور بدء محمد مسيرته في هوليوود تقلد منصب المخرج التنفيذي (أعلى منصب في الفيلم) وعمل على ١١ فيلماً. كان مخرجاً تنفيذياً في ١٠ منها ومخرج مشارك في فيلم واحد وفي كل فيلم عمل عليه كان يشاركه ذات المنصب عدة أشخاص، أي أنه من غير الواضح ما كان دوره في الإخراج. في هوليوود عمل محمد مع أشهر الممثلين والمخرجين وصادق الكثير من الشخصيات المثيرة التي سنتطرق لها في المقال اللاحق.
ليحصل شخص ما على منصب المخرج التنفيذي تلزمه خبرة سنوات في صناعة الأفلام، فالمخرج التنفيذي هو المشرف على جميع ما يخص الفيلم من إيجاد التمويل واختيار الممثلين والنص وما هنالك. لكن في بعض الأحيان قد يوضع اسم شخص ما كمخرج تنفيذي كمنصب شرفي دون الحاجة لأن يؤدي أي دور في انتاج الفيلم.
عادت الدورة الثانية من مهرجان أفلام السعودية في ٢٠١٥م لكنه لم يلق ذات الدعم الذي تلقاه مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بعد أن ترأسه محمد التركي حيث يحصل المهرجان على دعم لامتناهي من وزارة الثقافة ومن المؤسسات التابعة للدولة. أقامت المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG) جناح لضيافة محمد التركي وصديقته المقربة من أيام هوليوود نعومي كامبيل ضمن مهرجان كان ليونز الدولي للإبداع ٢٠٢١م. كما رعى مهرجان البحر الأحمر حفل العشاء للمنظمة الأمريكية لأبحاث لمرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) ٣ مرات – مرتين في مهرجان كان السينمائي ومرة في مهرجان البندقية السينمائي. كما أقام المهرجان ليلة أفلام السعودية في معهد العالم العربي في باريس الذي يرأسه جاك لانج (في السبعينات وقع جاك على عريضة للدفاع عن ثلاثة متحرشين بأطفال دون الخامسة عشر كما أن جاك حصل على تمويل لفيلم عام ٢٠١٨م من المدان بالتحرش بالأطفال جيفري إيبستين). في أول دورة لمهرجان البحر السينمائي الدولي حضر جاك لانج وألقت صديقة محمد التركي نعومي كامبيل كلمة بمناسبة تدشين المهرجان في دورته الأولى كما دعا عدداً من أصدقائه من هوليوود كانت من ضمنهم سارا سامبايو، أما كارلا ديبيلو كانت خلف الكواليس كعادتها.
انفتاح سعودية محمد بن سلمان لم يكن فقط بإقامة المهرجانات السينمائية محلياً ودولياً، فقبيل انطلاق مهرجان البحر الأحمر بعام تقريباً (٢٠١٨م)، خرجت تقارير صحفية تفيد بأن الممثلة العالمية سكارليت جوهانسون رفضت التمثيل في فيلم يحكي قصة صحفية شجاعة بعد أن علمت أن الفيلم يموَّل من السعودية. حسب ما ذكرت سكارليت أن سبب انسحابها هو انتهاكات السعودية لحقوق الإنسان في حربها على اليمن وسجن النساء في السعودية. على الرغم من أن الخبر صدر بعد اغتيال الصحفي جمال خاشقجي إلا أن سكارليت أكدت أنها أخذت قرارها قبل الحادثة. موقف سكارليت غير مفهوم، فلم تكن هذه المرة الأولى التي تعرضت لموقف مشابه حين وقعت عقداً دعائياً لشركة سودا ستريم الإسرائيلية. كانت سكارليت حينها سفيرة لمؤسسة أوكسفام الخيرية مما أسفر عن حملة ضغط ضخمة خلصت إلى تنازل سكارليت عن منصبها الشرفي في أوكسفام والاستمرار بعقدها مع سودا ستريم على الرغم من أنها تعلم أن الشركة تملك مصنعاً على الأراضي الفلسطينية الواقعة ضمن حدود الـ 76.
في المقال التالي (سحر هوليوود وصانعة المطر) سأحاول تفسير سبب رفض سكارليت العمل في فيلم من تمويل السعودية، كما سأحاول فهم سر تميز محمد التركي عن غيره من السعوديين ومدى تأثيره وشبكة علاقاته على صُنَّاع القرار في المملكة. لا أعلم لم يذكرني محمد التركي بمن دفع قيمة تذكرة ركوب مكوك فضائي ليصبح رائد فضاء.
ملاحظة: هذا المقال جزء من سلسلة مقالات. المقال الذي يليه عنوانه "سحر هوليوود وصانعة المطر"