قضية قتل النساء قضية ملحة في مجتمعنا حيث أعطت القوانين الوضعية في السعودية وفي مختلف الدول العربية السيطرة الكاملة للذكور على أقرانهم من النساء خصوصًا داخل الأسرة وسمحت بتخلفها بِسَن القوانين الصارمة التي تهدف إلى الحد من جرائم القتل الممنهجة ضد النساء واعتبرته شأنًا أسريًّا يباح فيه إسقاط الحق الخاص، بل واستهانت بعقوبة الحق العام، فسمحت للقاتل بالخروج بعد فترة وجيزة من السجن، ليعود ويمارس حياته دون أي اعتبار لهذه الروح، التي سلبت دون سبب سوى كونها أنثى ولدت في مجتمع يستميت لفرض سيطرته على النساء وقمع حقوقهن.
إن مثل هذه التساهلات ولدت لنا أجيالًا ترى في قتل النساء غسلًا للعار وحفظا للشرف وإن كان مايجري لا يمت للعار والشرف بصلة، بل هي خزعبلات فرضها نظام أبوي واستخدم الدين لشرعنة قتل النساء، فلو بدأنا بهذه القضايا لوجدنا أن القواسم المشتركة بينها هي الهيمنة الذكورية، والتعنيف والتهديد، ودعم الأهل بل وتطبيعهم لهذه الجرائم، وانعدام القوانين وتقاعس الجهات الأمنية عن أداء مهامها وصمت الحكومات عن هذه الجرائم، فمنذ أن تولد الفتاة تسلب منها طفولتها بحجة أنها أنثى بل ويعتبر وجهها محرمًا أن ظهر للعلن، ويستباح دمها دون أن تُذرف دمعة واحدة، ولطالما سمعت النساء بعض القصص التي تحكي عن وفاة فتاة بسبب تنظيف السلاح، أو إقدامها على الانتحار، أو أنها ببساطة قتلت على يد أحد أفراد أسرتها .
مع وجود قنوات التواصل الاجتماعي انتشرت هذه القضايا بشكل أكبر ولم يعد بالإمكان كتمها، لكن المصيبة الأكبر أن يكون للدولة ومؤسساتها دورًا في طمس هذه الحقائق أو إخفائها، أو التعذر وعدم نشر الحقائق والإحصائيات، أو حتى إخضاع المجرم لمحاكمة علنية تظهر قبح جريمته والعقوبة التي تتناسب مع ما ارتكبه من جرم، فتدفن جثث الضحايا دون أي تحليل جنائي يساعد في معرفة أسباب الوفاة، أو تتدخل واسطات وفزعات في مراكز الشرطة للتستر على الجاني، وتطبيع مقولة أنت ومالك لأبيك، واعتبار الأطفال مِلكًا لذويهم يقررون حياتهم ومصيرهم بدلًا من معاملتهم كمواطنين تحفظ حقوقهم حتى وإن كان المنتهك أحد الأبوين أو غيرهما من أفراد الأسرة، بل ويعاقب على كل تصرف يبدر منه تجاة هذا الطفل خصوصًا تلك التي قد يؤثر على صحته العقلية والنفسية.
بالعودة لتاريخ هذه الجرائم من جديد نرى أن الهاجس الأكبر في مجتمعنا والذريعة لكل هذه الانتهاكات هي “الخوف على النساء”، في حين أكثر ما يخيف النساء واقعًا هو تسلط ذويهن بمنعهن وقمعهن وفرض سيطرتهم عليهن، بل وقتلهن دون خوف من القانون (فالقانون لن ينصفهن)، فلا تُقتَل النساء من الغرباء بل من أسرهن، وهذه مقولة شائعة وحقيقية لا نستطيع إنكارها، أما بالنسبة للقوانين فما الذي يستفيده النظام الأبوي والحكومة التي تطبع لهذه الجرائم ؟ في أحد اللقاءات، قال محمد بن سلمان أنه لا يريد التصادم مع المجتمع فيما يتعلق بقضية النساء وحقوقهن، وأنه سيترك الأمر لأسرهن، ومثل هذه المقولات والتصريحات جرفت لنا سيلًا من المجرمين، وتجاوزت ذلك لتبيح للحاكم أيضًا الاعتداء على المعتقلات والمعنفات وكتم صوت المرأة التي تطالب الحماية بل ورميها في سجون دار الرعاية إن لم تكن جثة هامدة.
يتعذر النظام أو الجهات المعنية بتكتمه على جرائم قتل النساء في السعودية، خصوصًا التي تحدث بين الأزواج أو داخل الأسرة، بذريعة أنها تسيء لأطراف مقرّبة كالأطفال والأقارب والمجتمع بل وأن الإعلان بهذه الجرائم “لا مبرر له” لبشاعتها أو لأنها “قضايا شاذة” و”نادرة”، فإذا كانت هذه القضايا شاذة فلماذا تتكرر وبشدة في أوساط مجتمعاتنا؟ وإن كانت بشعة فهل من المنصف أن تُقتل الضحية ويهدر دمها ببشاعة وبسهولة لدرجة تمنع النظام من التصريح بهذه البشاعة وتطبيق القانون على هذا المجرم؟ هل من المنصف أن يعيش طفل بحسرة وحرقة على فقدان أمه أو أخته أو قريبته دون معرفة السبب أو القاتل، بل قد يعيش بين اكناف هذا القاتل؟ ما النتيجة المرجوة من التحفظ على هذه الجرائم إن لم تكن حفاظًا على مظهر الذكر وخوفًا من أن يوصم بالقاتل؟ وحفاظًا على مستقبله دون مراعاة لحُرمة الضحية أو اعتبارٍ لروحها التي أُزهقت؟
إن انعدام الاحصائيات في هذا النوع من الجرائم يبين الخلل الكبير في النظام الأمني ونظام الحماية، بل ويولد الرعب في قلوب النساء من أن تكون ضحية قادمة لا يعرف عن قصتها سوى قاتلها، تستخدم بعض الأسر الصحاري قبورًا لنساءها، في حين يختلق العديد منهم قصصًا عن زواج هؤلاء الضحايا وانتقالهن للعيش بعيدًا تفاديًا لكثرة السؤال أو إثارة الشك حول الموضوع، وقد يتسائل البعض عن سبب انتشار هذه الجرائم وكثرتها، متناسين أن تجاهل سَنّ وتنفيذ القوانين في العالم العربي هو ما يسمح بتزايد هذا النوع من الجرائم، فالأحكام المخففة والأعذار التي تُقبل كسبب لجريمة القتل، مثل “الاستفزاز”، أو “إظهار الوجه”، أو “العمل في مكان مختلط”، أو غيرها، توحي بأنه بإمكان أي رجل أن يقتل “نساء الأسرة” دون عقوبة، وَمَن أمِن العقوبة أساء الأدب، وفي هذا الموضع من آمَن العقوبة فَقَتل.
تجيز المنظومة القانونية في السعودية ومعظم الدول العربية إسقاط الحق الخاص في جرائم قتل النساء، أي حق ذوي الدم في الاقتصاص من القاتل، فإسقاط الحق الخاص يعني تخفيف الحكم إلى ما يقارب النصف وغالبًا ما تلجأ الأسر إلى ذلك حمايةً للقاتل، الذي عادة ما يكون أحد أفراد الأسرة، ولا تكتفي خطورة الإسقاط هنا فقط على المستوى القانوني، بل إنّ الخطورة العظمى تكمن في تبرير مثل هذه الجرائم اجتماعيًّا وأخلاقيًّا، فقد يسعى الأهل لتبريرها صحيًّا لتخفيف الحكم أكثر، حيث تدرج شهادات الطب النفسي، أو القول بأن الضحية تعاني من المس أو السحر كما حصل مع إسراء غريب حينما سمع صراخها داخل المستشفى.
ولمعالجة مثل هذه الجرائم وإنهائها لا بد من سن قوانين تضبط علاقة النساء بأسرهن ومجتمعهنّ والنظر إلى قضايا التعنيف والقتل ليس كجريمة داخل أسرة بل كجريمة ارتكبت ضد مواطِنة، فإذا ما ألغينا صفة القرابة التي تتيح للقاتل التملص من العقوبة وبدأنا بتطبيق القوانين والمحاكمة على أساس المواطَنة، فستنخفض نسبة هذه الجرائم و سيكون باستطاعتنا أن نحمي النساء من أي شكل من أشكال الجرائم الموجهة ضدهن داخل النطاق الأسري والمجتمعي.
إن العمل على سَن قوانين واضحة بعقوبات محددة لكل جريمة دون السماح للقضاة بتقدير العقوبات أو الضغط على الضحية للتنازل عن أي بلاغ أو قضية ترفعها ضد أسرتها وتجهيز المؤسسات الأمنية للتدخل السريع في حال وجود بلاغ يهدد حياة النساء وانتزاع صفة الفزعة القبيلية ومحاسبة كل من يتقاعس عن أداء مهامه الموكلة له أو تجاهل نداءات الاستغاثة، كل هذه الخطوات ستحدث تغييرًا جذريًّا في قضايا قتل اللاشرف والعنف الممنهج ضد النساء، وسينشأ المجتمع في بيئة سلمية صحية يعاملن فيها كمواطنين أكفّاء متساوين دون تمييز أو اضطهاد عنصري.