في كثير من الأدبيات الثقافية المعاصرة المكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية، تبرز حالة “الحنين” بوصفها تحليلاً يقلّل من العمل الثقافي الموصوف بالحنين، لأن دوافع الحنين ذاتية، شخصية، عاطفية أكثر من كونها علمية، عقلانية ومدروسة.
حينما كتب وائل حلاق كتابه المثير للجدل “الدولة المستحيلة” كان من ضمن النقد الذي وُجّه إليه أنه يعيش حالة نفسية تدفعه للحنين للماضي ؛ وبالتالي تقديم نموذج الماضي العربي والإسلامي كحالة أفضل من كل أشكال النماذج السياسية المعاصرة.
وهذا النقد لا يمكن فهمه -في تقديري- إلا بأنه نوعٌ من محاولة الشغب على الفكرة الأساسية والطرح الذي قدّمه حلاق بشيء من التفسير النفسي والاجتماعي الذي يتحاشى تناول الأفكار الأساسية؛ بل واعتبار الأفكار الأساسية مشكلة ومغلوطة بمجرد تفسيرها بأنها مدفوعة بحالة مَرَضية وبشعور نفسي سلبي.
أقول هذا لأن حلاق لا يمكن فهم تقييمه للتاريخ الإسلامي كنوع من الحنين. قراءته للتاريخ والحضارة الإسلامية مثل قراءة رفيق حبيب، كنوع من الانتماء الثقافي الذي لا يرتبط بالحنين؛ فالحنين يعني بكل وضوح التوق لمرحلة من الماضي ينتمي لها الشخص بشكل روحي، بينما حلاق وحبيب يقيمان النموذج التاريخي الإسلامي كشخصيات تختار الانتماء بوعي مسبق، وليست تحن لانتماء ماض. هذا حسب ما أفهم من كتابتهما.
وشيء آخر، الحنين نفسه قد يكون إيجابيًا دافعًا للبحث والاعتبار بالذات وإعادة التقييم للنفس والماضي، وهذا كله قد يكون مصحوبًا بآلة النقد والتقييم والمراجعة، كما أن حالة الدهشة من الجديد والآخر -بالمقابل- قد تصحبها حالات إيجابية من اكتشاف الجديد واعتباره والاستفادة منه وتقييمه ونقد الذات.
إذن؛ فالتقييم الأفضل لخطاب وائل حلاق هو نفس ما يمكن قوله على آخرين قبله بكثير مثل إدوارد سعيد، الذي كان يرغب بالعودة إلى الذات، العودة إلى المكان؛ لذلك كان إدوارد سعيد يضع لسيرته الذاتية عنوانًا بالغ الأهمية وبالغ الدلالة حينما جعله “خارج المكان/ Out of Place”؛ فهو خارج هذا المكان الذي يريد أن يعود له يومًا ما.. وهذا هو “حق العودة”.
تلك العودة إلى الذات بدأها إدوارد سعيد معنوياً عبر نقد الاستشراق والإمبريالية، وإعادة الاعتبار لصورة الإسلام في الأدبيات الغربية ورصد كل ذلك، ثم كان يطمح لتلك العودة الجسدية في القضية الفلسطينية، وهو الذي انبثق وعيه على كل تفاصيل الصراع وعايش أحلك لحظات الحرمان والعبث بالخرائط في الشرق الأوسط بشكل غير مسبوق.
وفي العودة إلى الذات أيضًا: بعد دراسة الاجتماع في فرنسا والاطلاع على التراث الغربي في الفلسفة، عاد علي شريعتي إلى إيران، كي يؤلف “العودة إلى الذات” ويؤسس لتيار يؤمن بالذات ويعيد قراءتها أكثر من اهتمامه بالآخر الذي هو الغرب؛ ليحاول أن ينقل ما يسميه “التشيع الصفوي” للتشيع العلوي، و”التسنن الأموي” للتسنن المحمدي.
ومن رحم فرنسا أيضاً عاد فرانز فانون للحالة الإفريقية ليعود للقارة السمراء مناضلا ضد تلك الأقنعة البيضاء التي يلبسها السود فقط كي يبدوا لائقين بالعالم، فكان يصف هؤلاء بكتاب خصصه لهذا الشأن بعنوان “بشرة أسود.. أقنعة بيضاء” (Black Skin White Masks).
قرر فانون على حين غرّة أن يبصق على الاستعمار الفرنسي في إفريقيا وقرر أن يفعل ذلك في فرنسا نفسها، حين استَعَرَت فيه حالة العودة إلى الذات والاعتراف بسواده وتاريخه ونفسه.
في الابتعاث -على سبيل المثال- كانت تلك الفرص الكثيرة للعيش والدراسة والاحتكاك، وكان ذلك الاختبار الدائم بين الدهشة والحنين، الدهشة التي يخافها المجتمع المحافظ ويخافها على أبنائه، والعودة إلى الذات التي لا يريدها الآخر الذي يعتقد أن أسلوبه في الحياة قد غلبك وسرق عليك قلبك.
صديقي منذ أن عاد من ابتعاثه، وأمه تتعاهد ذوقه ولباسه؛ كي تتأكد تلك العجوز الطيبة أن ابنها لا يزال يحب “المرقوق” ويأكل “الجريش” ويستمتع بـ “المصابيب” كما كان يفعل قبل أن تتخطفه دولة غربية في برنامج ابتعاث؛ مما أخاف تلك الأم من أن يسرق “الغرب” ابنها منها.. ثم لا ينفع الندم!
ذلك الابن/ الصديق لم يكن في حالة محافظة أكثر منه بعد قدومه؛ فمعرفة الآخر أشعلت فيه حس العودة إلى الذات، بنت شيئاً مختلفاً تماماً عما كان يظن الكثير؛ فالابتعاث له حالتان:
الأولى: هي الابتعاث الذي صدم العرب النهضويين الأوائل؛ فأحال ذلك الدرويش العالم التقليدي الشيخ “رفاعة رافع الطهطاوي” الذي كان يؤم المصلين في تلك السفينة الراكضة التي تشق عباب الحوض المتوسط متجهة لفرنسا، إلى أن يصبح “الأستاذ” رفاعة الطهطاوي، وأحال تلك العمامة المخبتة إلى طربوشٍ ثائرٍ ضد “الجمود”.
تلك الدهشة التي حملها الطهطاوي، الخارج لتوه من مصر ما قبل محمد علي، كانت هي فلسفته؛ فالدهشة هي أم الفلسفة كما يقول أحد الفلاسفة الأوائل.
لهذا؛ كان يقال بأن الطهطاوي رجع بوجه غير الذي ذهب به، فكان يبشر بتراث التنوير الفرنسي، ويترجم لمونتسكيو ويحكي تجربته في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» أي باريس (العاصمة الفرنسية)، وهكذا كان الشكل التقليدي للاحتكاك بالغرب الذي نسب إليه لاحقًا فعل “التغريب” أي تحويل كل أشكال الثقافات الأخرى للنموذج الغربي الخالص.
الحالة الثانية للابتعاث في مقابل تلك الدهشة الطهطاوية وبعد قرابة القرن: هي العودة إلى الذات التي قد تختلف حدتها وطبيعتها، فكان سيد قطب -على سبيل المثال- يشق عباب المحيط الأطلنطي، حيث لبث قرابة السنة والتي عاد بعدها هو الآخر بوجه غير الذي ذهب به، ولكنه ليكون أكثر محافظة وأشرس انتقادًا للغرب وأمريكا كما رآها وكما حكى تجربته في ذلك في أكثر من مناسبة ودوّن تجربته وذكرياته الخاصة؛ ليقول عن أمريكا بأنها مجرد “ورشة” كبيرة مليئة بالمعامل والآلات، خالية من الأخلاق والدين والحياة النابضة!
وبعده بعقود، الفيلسوف المسيري بعد أن عاش فترة طويلة في نيويورك، يحتضن مشروع الاستقلال الشرقي ناقدًا “المادية” و”الصهيونية” و”الحداثة” والحالة الظالمة ثقافيًا وسياسيًا المنحازة في الفكر الغربي.
في النهاية: بين العودة إلى الذات والدهشة، هناك إنسان شرقي يعرف نفسه وينكرها؛ فشيء من المعرفة تقود لدهشة الأطفال، بينما الكثير من المعرفة تقود للعودة إلى الذات والحنين الإيجابي.