عندما يسألك أحدهم عما الذي يعنيه لك والدك ووالدتك، فأنت ستجيب دون تفكير من خلال استخدام التعبيرات التي اعتدت على استرجاعها في الإجابة على هذا السؤال، فأنت تحبهم وتسعى بكل ما أوتيت من قوة ومقدرة على أن ترضيهم وتسعدهم، أو ربما في حالة أخرى تأخذ بعض الوقت لتفكر ولتخرج بعبارات أكثر عمقًا وخصوصية من تلك التي خرجت منك أول مرة، التي جميعها تحاول أن تعبر عن شعورك الحقيقي تجاههم وإن كانت لا تفي بالضرورة عن شعورك العميق تجاههم.
كذلك هو الوطن والمعاني التي يكتنزها في كل واحد منا، فكم من شاعر سطر الملاحم في مدح وطنه وكم من كاتب حاول أن يعبر عن معناه في كتاباته من خلال ترديد ذات العبارات التي اعتدنا عليها والتي تتوافق مع السياق الثقافي العام الذي نشأنا فيه دون أن تكون جل تلك الكتابات والعبارات تشرح في صلبها معنى الوطن كقيمة عليا تتجاوز قشور المعنى فينا ودون أن تلامس حقيقية كون الوطن هو البوتقة التي تنصهر فيه حياتنا وواقعنا وآمالنا وكل ثانية ويوم وسنة عشناها فيه.
لا أريد هنا أن أعيد نفسي وأكرر ما قيل ملايين المرات في معنى الوطن، بل سأحاول أن أخرج من الصندوق الذي أغلقنا أنفسنا وسطه خوفًا من الخروج عن السياق العام والرأي السائد، فكل خروج عن المعتاد في زمن التعود على عدم التفكير والسؤال قد يشكل إشكالا لصاحبه، ولكن رغم هذا أعلم بأن هناك من هم مثلي يبحثون عن الإجابات الشافية أو على الأقل لديهم شغف إعادة التفكير في الأفكار المسلم بها، فهل مسلمات اليوم، كانت تعتبر مسلمات قبل مئة عام. وهل الإنسان اليوم، هو ذاته إنسان الماضي من حيث فهمه لواقع الحياة ودوره الصغير في المنظومات التي تشكل محيطه الواسع.
هناك العديد من الأسئلة التي كنت دائماً أبحث عن إجابات لها، ولكي أكون أكثر دقة، أسئلة لم تكن الإجابات التي أقدمها أو أتلقاها تقنعي بشكل كامل، لا لأني كنت أراها بالضرورة تضليلا بل لأنها كانت مستهلكة لدرجة كنت دائمًا ما أقول أنه لا يمكن أن يكون الوطن وهو الكيان الكبير بمكوناته المتعددة قابلا لأن يختزل بتلك الإجابات السطحية والمعلبة، وهنا فإني لا أحصر حديثي عن وطن بعينه بل الوطن بمفهومه الأعم، خصوصاً إنه مع مرور الوقت بدأ هذا المفهوم يتوسع في حدود تعريفاته لدى الباحث عن المعاني الحقيقية من خلال الاطلاع على معانيه في ثقافات وحضارات عديدة المعاصرة منها والأخرى الغارقة في التاريخ.
هل هناك شيء اسمه حب الوطن؟
هناك عبارة مسلّم بها تستخدم في كل مرة يحاول المرء التعبير عن معنى الوطن، فيقول أنا أحب وطني وحب الوطن هو أرقى درجات الحب وأسمى معاني الوطنية، والوطن الذي لا نحبه لا نستحقه وغيرها من العبارات التي تربط علاقة المواطن بالوطن من منطلق عاطفة الحب، إلا أننا لا نسمع أو نقرأ العبارة بالشكل المعاكس، فلا تستخدم عبارة أن الوطن يحب شعبه، فالوطن هنا هو كيان قيمي مثالي غير مجسد ليشعر ويحب، إلا أننا في المقابل سنجد هذه العبارة تستخدم بشكل مختلف لتعني حب الوطن للمواطن، وذلك من خلال حب الزعيم لشعبه الذي يبادله حبهم له بحبه لهم وبالتالي فإن الوطن في هذه السياق هو الزعيم، أو في كون الدولة أو الحكومة تحب الشعب فتقدم لهم كل مقومات الحياة الكريمة وفق معنى الكرامة بمفهوم تلك الحكومة وهنا أيضا يصبح الوطن هو الحكومة، ولذلك فإن تحديد ماهية الوطن في المثالين السابقين تعني أن الوطن يتجسد في أشخاص ومجموعات حاكمة، في حين تجد معنى الوطن لدى شعوب أخرى له معاني أخرى سأعود للحديث عنها لاحقاً.
هنا يصبح السؤال الأساسي الذي أريد أن أبدأ به هذه الجدلية حول الوطن ضرورياً، فهل هناك شيء أسمه حب الوطن؟ ولنبدأ في سعينا للإجابة على هذا السؤال بالكاتب والطبيب الأمريكي أوليفر وندل هولمز الذي قال ” إن الوطن هو المكان الذي نحبه، فهو المكان الذي قد تغادره أقدامنا لكن قلوبنا تظل فيه”، وهو تعبير في صميمه لا يختلف كثيراً عن ما اعتدنا عليه عندما نعبر عن الوطن والحنين إليه، إلا أنه يبقى جواباً وتوصيفاً جميلاً وشاعرياً دون أن يشرح لماذا نحب الوطن وما الذي يجعلنا نحبه، وفي المقابل يقول عبدالرحمن منيف بشيء من السوداوية في وصف هذا الحب “الوطن وهم كبير عندما نقابله بالحب والعطاء، ويقابلنا بالقمع والتشرد .. عندما نراه جنة موعودة ويصرون على أن يحولوه إلى زنزانة كبيرة”، فهو كغيره يستخدم وصف الحب في تبيان إحدى أوجه العلاقة بين الإنسان ووطنه وإن كان في سياق اللوم والعتاب والغضب، وهو هنا بلا شك ينظر للوطن لا من زاوية الوطن كمفهوم متجرد عن الإنسان وكمعنى سام وقيمة إنسانية بل من خلال ممارسات أفراده وأنظمته.
ما بين شاعرية هولمز ونظرة إنسان الوطن لدى منيف يأتي الفيلسوف الأمريكي المعاصر “نعوم تشومسكي” الذي سُئل ذات مرة إن كان يحب وطنه أمريكا وهو اليساري الأناركي والناقد الكبير للنظام السياسي الأمريكي فكان جوابه يتجاوز التقليدية حيث قال “لو سألت ألمانيًّا هل يحب بلده لردّ عليك عن أي ألمانيا تتحدث؟ هل هي ألمانيا الفلسفة والعلماء والفن أم هي ألمانيا أدولف هتلر والنازية، إن الأصح أن توجه سؤالك بصيغة أخرى، فتقول هل أنت معجب بوطنك، فلا يوجد شيء اسمه حب الوطن لأن الحب عاطفة إنسانية لا يمكن أن تتجلى إلا باتجاه إنسان آخر”.
جواب تشومسكي هذا دفعني للتفكير في بواطن معانيه، فهو من جانب ربط الوطن بالإنسان وفي جانب آخر ربطه بالإرث، فقد تكون تمقت الوطن لأنك كألماني تمقت أعمال هتلر ونظامه النازي أو قد تعجب بالوطن لأنك فخور بإنجازات الإرث الفلسفي والفني والعلمي الإنساني المسجل باسم ألمانيا، الأمر الذي أكسب وطنك السمعة الطيبة التي يحظى بها اليوم بين الأمم والشعوب.
في المقال القادم سنكمل استطرادنا حول هذه النقطة ونتوسع في حديثنا حول معنى أن يكون الإنسان وطنياً، فإلى الملتقى.