ظل يهود يثرب يُروّجون بين عربها، لسنواتٍ طويلة، فكرة يومٍ مشؤومٍ قادمٍ سيظهر فيه نبيهم الذي طال انتظاره، ليقاتلوا إلى جانبه العرب، حيث يقودهم نبيهم في حربٍ إبادة لن تتوقف حتى تباد العرب كما أُبيدت من قبل عاد وإرم.
بل لو علمت أن يثربًا ربما لم تكن لتكون المدينة المنورة لولا لقاء ذلك النفر من أهلها بالنبي في أحد مواسم الحج. حيث دعاهم ليسمعوا منه‘ فاسمعهم وتلى عليهم آياتٍ من القرآن، عندها، تذكّر أحدهم ما كان يسمعه من اليهود عن ذلك النبي المنتظر، فقال مُنبهًا رفاقه قائلًا: "والله إنه النبي الذي أخبرتكم عنه يهود، فلا يسبقنّكم إليه".
ما زالت عيون اليهود شاخصة نحو ذلك اليوم الذي يتوعدوننا به، وما زالوا ينتظرون "مخلصهم"، ولكن هذه المرة بغطرسة ونفوذ لم يسبق لهما مثيل، وبتآمر ومكر شديدين، مستغلين تغلغل "الطابور الخامس" في مفاصل الحكم في العالم العربي. بل إنهم لم يعودوا قادرين على تحمل المزيد من الانتظار، ولم يعد انتظارهم سلبيًا، مجرد فكرة دينية قابلة للتحول إلى فكرة ضارة، فقد تغيرت استراتيجية المنتظرين باختلاف مشاربهم من استراتيجية الصبر إلى استراتيجية العمل، العمل على خلق الظروف التي تُهيئ للمنتظر خروجه، بل هناك من يعمل الآن على إجبار مخلصه على الخروج.
هذه الاستراتيجيات تقف وراءها إرادات قوية، ماليًا واجتماعيًا واعتقاديًا، وتتميز بإفراطها في استعمال التأويل، فتكونت طبقات من المذاهب والاراء الباطنية، والموغلى في الباطنية بقدر ما فيها من خطر لا ينتهي بخسائر محدودة، فالناس لا يزالون يذهبون سدى قدر تلك التآويل التي حملتهم على مصائرهم وهي - ولا مؤاخذة- تافهة، هذا لا يعيبها؛ ما يعيبها هو أن يتسلط مصير تافه عليها.
أيها الناس
رغم ما حمله من بشائر، جاء طوفان الأقصى، بخبر سيء كاشف عن حقيقة مُرة: لم تعد "إسرائيل الكبرى" مجرد حلم صهيوني بعيد المنال، بل واقع مُعاش على الأرض. الحقيقة إنه في حين حددت أدبيات التوراة حدود إسرائيل الكبرى، وهي حدود تتجاوز فلسطين التاريخية لتشمل بلاد الشام وسيناء وأجزاءً من شبه الجزيرة العربية، بالضبط الثلث الشمالي منها، فإن ما حققته إسرائيل على أرض الواقع يتجاوز حدود التوراة، فقد وصلت إلى أقصى الجنوب، بحيث أنه لا يكون مخطئًا من قال : "و يحدها من الجنوب بحر العرب!"
لم يكن مفهوم "إسرائيل الكبرى" وليد اللحظة، بل هو فكرة ضاربة في القدم، سابقة للكيان الصهيوني نفسه. لم تكن أماني جماعات منبذَة اجتماعيًا حولت عزلتها إلى أسلوب حياة، بل تجاوزت ذلك لتصبح مع قيام إسرائيل اعتقادًا راسخًا بأن الدولة القومية هي الحل.
يتجلى هذا الاعتقاد بوضوح في مفهوم "الشعب المختار" الراسخ في الفكر الديني اليهودي. فوفقًا لهذا المفهوم، يعتبر اليهود شعب الله المختار، ضمن إطار ديني يربط بين الأرض والشعب ويُسبغ عليهما صفة القداسة والأبدية. وحدة لا تنفصم يتماهى فيها الشعب والأرض، ويصبح اليهود بموجبها كيانًا مميزًا يحمل رسالة خاصة وعلاقة حصرية مع الله.
تستند هذه الفكرة إلى نصوص التوراة، خاصة في أسفار التثنية واللاويين، حيث يتكرر التأكيد على اختيار الله لبني إسرائيل ليكونوا "شعبًا مقدسًا" مميزًا. وتظهرهم هذه النصوص كشعب مُكلّف بحماية الشريعة والالتزام بالعهود الإلهية، ما يضعهم في مكانة خاصة أمام الله.
وعلى مر العصور، حاول الحاخامات والمفكرون اليهود تفسير هذا المفهوم بطرق مختلفة، مؤكدين على أهمية الانفصال والانعزال عن الشعوب الأخرى للحفاظ على الهوية والنقاء الديني. ففي التلمود، يُشبّه اليهود بحبة زيتون لا تمتزج بغيرها، في إشارة إلى ضرورة الحفاظ على تميزهم وتفردهم. ويُفسر هذا الاختيار الإلهي ليس على أساس النسب أو العرق، بل كالتزام أخلاقي وروحي.
ويرى البعض في مفهوم الاختيار الإلهي علامة على التفوق العرقي والديني، فاعتبار اليهود أبناء إبراهيم يجعلهم كهنة وقديسين وأمة مقدسة. فلا يُعتبر هذا الاختيار مجرد امتياز، بل مسؤولية تفرض التزامات دينية وأخلاقية خاصة، أساسًا للتميز والريادة.
يتجاوز مفهوم "الشعب المختار" كونه مجرد اعتقاد ديني، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية اليهودية. فهو يعكس رؤية خاصة للعلاقة بين الله والشعب والأرض، ويرسم حدودًا فاصلة بين من ينتمي لهذه العلاقة ومن هم خارجها.
ارتكز "الحل" على فكرة العثور على وطن يُدعى "أرض بلا شعب" ليستوعب "شعبًا بلا أرض"، متجاهلين المفارقة الواضحة في الادعاء بوجود "أرض بلا شعب". فالشعب والأرض بينهما علاقة وجودية، لا يمكن لِمجموعة من الناس أن تتجمع وتُنصب نفسها "شعبًا" ثم تدعي وجود "أرض موعودة" خالية من السكان تنتظرهم لمجرد زعمهم أنهم "شعب بلا أرض".
إنَّ الأسهل علينا، نحن غير المُقحمين في هذه الدوامة، أن نُقرّ بأنه لا يوجد "شعب بدون أرض"، وأنَّ كل ادعاء بوجود شعب كهذا ليس إلا كذبة مُختلقة. أما أن نُسلّم بصحة رواية "التوراة" وما تلاها، ونعتبرها صكّ تمليك ممن لا يملك لمن لا يستحق، فهذا يندرج تحت منطق استعماري بحت، يقوم على مقدمات مضمرة، لا مجال لذكرها هنا، لكنها تتعلق بادعاء المستعمر أحقيته بإخضاع الآخر لاحتكاره صفة الإنسانية لنفسه.
يُلقي مفهوم "إسرائيل الكبرى" بظلاله الثقيلة على مستقبل المنطقة، كاشفًا عن مطامع الكيان الصهيوني التي لا تعرف حدودًا، والتي تتجاوز بكثير فكرة السيطرة على الأراضي الفلسطينية. فإسرائيل، كما يفضح سلوكها التوسعي، لا تُخفي رغبتها في ابتلاع مناطق شاسعة، مدعية أنها جزء من روايتها التاريخية المُختلقة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: أين تقف دويلات الخليج من هذا كله؟ تلك الأنظمة التي تُزجّ بأبناء شبه الجزيرة العربية في غياهب السجون لمدد تصل إلى ثلاثين عامًا، لمجرد أنهم لم يُرحبوا بحماس كاف بسرديتها الثقافية المُفبركة، سردية "الحضارات الخليجية" المزعومة!
إنها سردية تُجرّم كل من يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها، وتُلصق به أوصافًا مُهينةً، تحمل في طياتها إهانةً بالغةً لنا ولأسرنا وكرامتنا، فتُجبرنا على تسمية القهوة العربية بالقهوة السعودية، والعرضة النجدية بالعرضة السعودية! في حين هم يتغاضون ببساطة عن إسرائيل ومواطنيها الذين لا يخفون حنينهم ووعيدهم وتطلعهم، ليس لانتزاع أبوظبي درة الحضارة الاماراتية المعروفة بمولاتها العظيمة الموغلة في العراقة و القدم (هذه السرديات ممكن تكون مقومات لأشياء كثير ليس منها الوطنية!)، بل إنّ أعينهم شاخصةٌ نحوَ بلدانٍ ذات ثقلٍ سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ وتاريخيّ واقتصاديّ.
ببالنسبة لي، يبدو هذا الأمر مريبًا ومبهماً، إذ أن التشتيت والتضليل والسرية والباطنية هي سمات مميزة للطغم المتسلطة. إنه نوع من اللعب، وإن لا نتحفظ على وصفه بسوق الزناوة، الذي بدوره يفرض على كل من يتفاعل معه قواعد لعبة الزناوات ذاتها.
فلا يحق لهم أن يطالبوننا بأن نكون موضوعيين وملتزمين بالاعتناء بالتحقيق وسلوك مسالك التدقيق، قبل أن يسلكوا معنا سلوكًا معقولًا. فأعيدوا الحديث عن تلك العوائل اليهودية التي ذابت في نجد، وأذهبوا في تساؤلاتكم كل مذهب، فالحقيقة لا تقيدكم، بينما تقيد خصومكم بعدم تقيدهم بها. فمن يدري، لعلنا لا نستفيد إلا أن أثرنا السؤال العميق والوجيه: من هؤلاء؟