مقالات

ما بعد الصحوة_ هل وجد التنويريون أنفسهم أم فقدوها؟

الكاتب/ة مروان النجدي | تاريخ النشر:2025-03-09
حين نتحدث عن "المثقف"، فإننا لا نقصد المعنى العام الذي يشمل كل إنسان؛ فلكل شخص ثقافته الخاصة. بل نتحدث هنا عن المثقف بوصفه فاعلًا في المجال العام، ذلك الذي ينتمي إلى نخبة يُفترض أنها معنية بالفكر والمعرفة والبحث الأكاديمي، ويُوضع غالبًا تحت مسمى "التنويري" أو "الليبرالي". غير أن هذه المسميات، في السياق السعودي، تبدو مثيرة للجدل؛ إذ لا يبدو أن أصحابها يستحقونها حقًا، فهم ليسوا سوى امتدادٍ وظيفيٍّ لسلطةٍ استبداديةٍ أعادت توزيع الأدوار، وحوّلت هذا التيار إلى أداةٍ جديدةٍ ضمن ترسانتها السياسية.
المفارقة أن نقدنا هنا لا يتوجّه ضد المثقف السعودي لكونه سعوديًا، فالانتماء للوطن حقيقة لا جدال فيها. إنما تكمن المشكلة في أن هذا المثقف -بدلًا من أن يكون ناقدًا حقيقيًا للواقع الذي يعانيه مجتمعه- انحاز، طوعًا أو كرهًا، إلى دور الأداة في يد السلطة المستبدة، التي لا تتوانى عن سحق الجميع بلا رحمة. فالقمع السياسي في السعودية لا يميز بين أحد، بل يتسبب في تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، ومع ذلك، نجد أن هذا المثقف لا يرى في الاستبداد أصل المشكلة، بل يحمّل المجتمع مسؤولية مأساته، متوهّمًا امتلاكه "الوعي" و"الرؤية" التي يفتقر إليها الآخرون.
لقد استطاع التيار الصحوي، على الرغم من كل ما عليه وما له، أن يكتسب حضورًا وتأثيرًا لارتباطه ببنية اجتماعية متجذّرة، في حين لم يكن "التنويري السعودي" أكثر من ردّ فعلٍ بلا مشروعٍ مستقلٍ أو رؤيةٍ متماسكة، أقرب إلى نسخة جديدة من "المطوع" القديم، لكن في ثوبٍ مختلفٍ يؤدي الدور عينه في ضبط المجتمع وفق إرادة الحاكم، وإن تبدّلت شعاراته.
مثقف تابع: إعادة إنتاج السلطة بثوب جديد
ابن خلدون تحدّث عن العصبية باعتبارها المحرّك الأساسي للحراك السياسي والاجتماعي، موضحًا أنها ليست مجرد انتماءٍ قبلي، بل تشمل أي تحالفٍ يهدف إلى تحصيل المصالح وبسط النفوذ. من هذا المنطلق، يمكننا النظر إلى "التنوير السعودي" لا بوصفه مشروعًا معرفيًا حقيقيًا، بل شبكةً من المصالح التي تتحرّك وفق منطق العصبية، مهما ادّعت غير ذلك.
يدّعي "المثقف التنويري" أنه يتبنى منهجًا نقديًا تحليليًا، لكنه في الواقع لا يختلف عن خصومه الإسلاميين الذين كان ينتقدهم بالأمس، فهو لا يمتلك رؤيةً فكريةً مستقلة، بل يتحرّك كردِّ فعلٍ على التيار الديني. كما أن خطابه ليس صادرًا عن وعيٍ متجذّر، بل يتخذ شكل امتدادٍ لمعادلات السلطة القديمة، مع إعادة طرحه في قوالب حداثية ليس فيها مضمونٌ أصيل.
الإشكالية هنا أن "التنويري السعودي" ليس جزءًا من تحوّلٍ ثقافيٍ حقيقي، بل أداةٌ وظيفيةٌ جرى إنتاجها لسد الفراغ الذي نتج عن تراجع الصحوة، لكنه في النهاية ليس إلا انعكاسًا لقرارات النظام السياسي وتوجهاته. إنه لا يوجّه انتقاداتٍ للسلطة، بل يردّد خطابها كما كان رجال الدين سابقًا يبرّرون سياساتها بالنصوص الدينية. وما تغير هو انتقال التبرير من صياغةٍ شرعيةٍ إلى شعاراتٍ حداثيةٍ وعقلانيةٍ وحقوقية، فيما ظل الجوهر ذاته: الطاعة للحاكم، مع استمرار الدور الوظيفي نفسه.
يمكننا رؤية ذلك في التاريخ الحديث، حيث تبنّى بعض المثقفين خطاب الدولة في مراحل مختلفة دون مقاومة تُذكر، كما حدث عند تحول الإعلام السعودي من دعم الصحوة في الثمانينات والتسعينات إلى تبني الخطاب الليبرالي مع بداية الألفية الجديدة. وفي كلتا الحالتين، لم يكن المثقف فاعلًا مستقلاً، بل ظل مجرد انعكاسٍ لرغبة السلطة في ضبط المجال العام وفقًا لأولوياتها المتغيرة.
المثير في الأمر أن ما حدث مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتكرر الآن مع هيئة الترفيه، وكأن الأسلوب لم يتبدل بل استُبدلت فقط أدوات السيطرة. فبعد أن كانت الرقابة الدينية وسيلةً لضبط المجتمع عبر فرض معايير السلوك الديني، حلت محلها رقابة ثقافية مموهة، تهدف إلى ضبط الأفراد بطريقة أكثر نعومة ولكنها لا تقل إحكامًا، حيث يُعاد توجيه الرغبات وتحويل المجتمع إلى سوقٍ استهلاكيٍ، بعيدٍ عن أي مضمونٍ فكريٍ نقدي. 
ففي السابق، كانت هيئة الأمر بالمعروف تستخدم سلطتها لمنع بعض أشكال التعبير الاجتماعي، متذرعة بالحفاظ على القيم الأخلاقية والدينية، أما اليوم، فإن هيئة الترفيه تضطلع بدور مشابه ولكن تحت غطاء "التحرر"، حيث يتم الترويج لمظاهر الترفيه بوصفها بديلاً عن الفعل السياسي أو النقدي. وهكذا، ينتقل المجتمع من شكلٍ من أشكال الرقابة إلى آخر، دون أن يكون له مساحة حقيقية للتفاعل الحر أو المشاركة في صياغة مصيره الثقافي والفكري.
والحقيقة التي لا يريد "المثقف التنويري" الاعتراف بها هي أنه لم يكن يومًا مشروعًا تحرريًا، بل مجرد امتدادٍ جديدٍ لطغيانٍ قديم، لا يختلف عن "المطاوعة" الذين هاجمهم إلا في المظهر. إذ لا يزال يتحرك مع إيقاع السلطة نفسها، دون أن يجرؤ على عزف لحنه الخاص.
حين يعاني "المثقف" من كراهية الذات، فإنه يجد نفسه في حالة إنكارٍ لكل ما هو محلي، لا من باب النقد الموضوعي، بل كردة فعلٍ نفسية متشددة، تجعله يحمّل المجتمع وزر كل الإخفاقات. هذه الكراهية تتجلى في انفصاله التدريجي عن الناس، حيث ينظر إليهم وكأنهم عائق أمام طموحه الفكري أو أحلامه "التحديثية". وبدلًا من إعادة تشكيل الخطابات الفكرية بما يناسب واقعه، فإنه يتلقفها من غير وعيٍ بسياقاتها، متقمصًا دور الوصي على المجتمع، رغم افتقاده للرؤية المتجذرة. وهكذا، يصبح مجرد ظلٍّ باهتٍ لخطاباتٍ مستوردة، بلا استقلالٍ فكريٍ حقيقيٍ أو مشروعٍ أصيل.
مثقف لا يُثقّف، وليبرالي لا يُحرّر
المعضلة الحقيقية لا تكمن في كون "المثقف السعودي" تابعًا للسلطة، فهذا أمرٌ معتادٌ في بيئةٍ تُصنع فيها النخب تبعًا لمعايير محددة سلفًا، بل تكمن في أنه يتجاهل ذلك أو يتغافل عنه. فهو يرى نفسه صوتًا مستقلًا، لكنه يُمثّل امتدادًا جديدًا لأنماط القمع نفسها، مع تبديل الأزياء فحسب؛ إذ انتقلت الوصاية من خطابٍ ديني متشدّد إلى وصايةٍ "تنويرية" تدّعي الإحاطة بمصلحة الناس أكثر منهم. والفارق أن الأول يستند إلى الدين، بينما الثاني يتحدث عن حريةٍ وتقدم، دون أن يمارس منهما شيئًا فعليًا.
إن ما يحدث اليوم ليس نقدًا حقيقيًا، بل عملية تبادلٍ للأدوار؛ فكما كان الصحوي يحتكر الصواب، يحتكره الآن التنويري. وكما صنّف رجل الدين الناس بين مستقيمٍ وضال، يقوم "المثقف التنويري" بالأمر نفسه ولكن بمفرداتٍ مختلفة: "رجعي" بدل "ضال", و"متخلف" بدل "فاسق", و"عدوٌ للحداثة" بدل "عدوٌ للإسلام". أما الجوهر، فلم يتغير.
لقد انتقل المثقف التنويري من معارضة التيار الديني إلى تبني استراتيجياته وأساليبه، وإن كان ذلك تحت شعارات جديدة. ففي حين كان الخطاب الديني يفرض وصايته من خلال احتكار تأويل النصوص الدينية وإضفاء الشرعية على مواقفه، يمارس المثقف التنويري وصايته عبر تبني خطاب عقلاني زائف يُقصي المخالفين ويضعهم في قوالب ثابتة تبرر إقصاءهم. وكما كان التيار الديني يمارس الإلغاء تحت شعار حماية العقيدة، يمارس المثقف التنويري الإقصاء تحت شعار حماية التحديث والعقلانية.
الحقيقة القاسية التي لا يرغبون في مواجهتها أن "المثقف السعودي"، سواء ادّعى التنوير أو انتمى للسلفية، ليس سوى نتاجٍ للطغيان الذي يزعم معارضته. إنه ترسٌ صغيرٌ في ماكينةٍ كبيرةٍ يسير معها كيفما اتجهت، لا يقوى على الانفصال عنها. وكلما ازدادت هذه الحقيقة وضوحًا، زاد محاولته للهرب منها، سواء بالخطاب الأجوف، أو بالتصفيق حين يُطلب منه، أو بالاحتماء بالنرجسية التي تُخفي ضعفه الفعلي.
في صميم هذه المسرحية، تبرز شخصية يُظن أنّها تتجاوز النص وتقود المشهد وحدها، لكنها في الواقع ليست سوى ممثلٍ آخر يخضع للدور الذي رُسم لها مسبقًا. هذه الشخصية هي المثقف السعودي الذي يدّعي التنوير والليبرالية والحداثة، لكنه في حقيقة الأمر لا يحمل إلا أفكارًا مُستعارة، تمثل نسخةً مشوّهةً من خطاباتٍ مُترجمة أو مقتبسة من منظّري الغرب، جرى إسقاطها على مجتمعٍ لم يفهمه أبدًا ولم يسعَ أصلًا لفهمه.
المشكلة الأساسية في هذا المثقف التنويري أنه لا يُقدّم تثقيفًا حقيقيًا؛ بل يكتفي بإعادة تدوير أفكار الغير، دون إنتاج معرفةٍ جديدةٍ أو طرح رؤى مبتكرة. هو ينشغل بهواية انتقاد المجتمع بوصفه مادةً خامًا يلزم تشكيلها بقوالبٍ غربيةٍ جاهزة، متجاهلًا تعقيداته الفعلية وتنوع تجاربه. نجد في كتاباتهم ومقالاتهم المتكررة صيغًا نمطية مثل "المجتمع السعودي متخلّف"، و"السعوديون لا يدركون الحرية"، و"الدين أصل المشكلات"، و"علينا أن نصبح كالغرب"، من غير أن يتساءلوا عمّا إذا كانت الظروف قد تغيّرت أو إن كان نقدهم ما يزال صالحًا.
فعلى سبيل المثال، نجد بعض المثقفين السعوديين يكررون نقدهم للصحوة الإسلامية بأسلوب يعود إلى التسعينيات، متجاهلين أن المجتمع تجاوز كثيرًا من تلك الجدليات، بينما يتغافلون عن نقد الممارسات السلطوية التي أفرزت بدائل لا تقل استبدادًا عن الصحوة نفسها. كذلك، يتبنى بعضهم خطابات الحداثة الغربية دون استيعاب للسياقات التي ولدت فيها، فنجدهم ينادون بالديمقراطية وحقوق الإنسان بشكل انتقائي، دون إدراكٍ حقيقيٍ للعمق التاريخي لهذه المفاهيم أو لطبيعة التحولات السياسية في الغرب ذاته. إنه ببساطة ببغاءٌ يُعيد ما قيل قبل عقود دون أن يستوعب معناه أو سياقه، أو يُعيد إنتاج نقدٍ بائدٍ غير قادرٍ على استيعاب تحولات الواقع الراهن.
لكن تبعية هذا المثقف تأخذ بُعدين؛ فمن جهة، ظل التنويري السعودي يعيش عالةً على التيار الصحوي، إذ لم يقم وجوده قط على مشروعٍ ذاتي، بل اتكأ على دوره في معارضة الخطاب الديني المهيمن. وحين خفت صوت التيار الديني، افتقد التنويريون قاعدتهم تمامًا، فلم تعد لديهم قضيةٌ حقيقيةٌ تكفل لهم التأثير أو شرعية الحضور.
ومن جهةٍ أخرى، اتجه هؤلاء المثقفون إلى الفكر الغربي بوصفه مرجعًا مطلقًا دون أي نقدٍ جاد، متبنّين رؤى ومفاهيم لم يخضعوها للتمحيص أو إعادة التفسير وفق سياقهم المحلي. لم تكن هذه التبعية مجرد استلهامٍ من الحضارات الأخرى، بل كانت افتتانًا حدّ التقديس، حيث استوردوا خطاباتها بصورةٍ مجتزأة ومشوّهة لا تتناسب حتى مع البيئة التي يرغبون في تطويعها. وهكذا، لم يتمكنوا لا من تجاوز الصحوة بطرح بديلٍ متماسك، ولا من إنتاج قراءة نقدية مستقلة للحداثة الغربية، ما جعلهم عالقين في تكرارٍ مستمر لنقد قديم لمجتمع تغير دون أن يدركوا ذلك.
ورغم كل ما يدّعيه من شجاعةٍ فكرية، لا يجرؤ المثقف السعودي على مواجهة حقائق مجتمعه، فينتقي خصومه وفق ما يسمح له بهامش الأمان السياسي، متجنبًا الاقتراب من السلطة الفعلية التي تُشكّل الواقع. فهو يهاجم الفكر الديني التقليدي دون التطرّق إلى استغلال السلطة ذاتها لمفهوم "التنوير" كقناةٍ جديدةٍ للقمع، ويتغنّى بالحرية في المساحات التي تضمن له مظهر البطل المستنير دون أن يدفع أي ثمن حقيقي. وعندما تعترضه وقائع تزعزع أوهامه، يسارع إلى تكرار عبارة "المجتمع غير مستعد"، وكأن هذا "الاستعداد" ينبغي أن يُفرض عليه من الخارج بدل أن ينبع من وعيه الذاتي.
وما يدعو للسخرية أكثر أن الليبرالي السعودي لا يتأمل يومًا النماذج التي يُعلي من شأنها، وفي مقدمتها النموذج الأمريكي. فالثورة الأمريكية -التي تمثّل تمردًا على الاستبداد البريطانية- لا تظهر في خطابه، رغم تغنّيه المتواصل بالديمقراطية الغربية. كيف ينادي بـ"عظمة الغرب" ثم يتجاهل الأسس التي قامت عليها؟ الأمر بسيط: النظام نفسه لا يرغب في هذا النمط من التفكير، ويفضّل الانبهار الأجوف بالغرب دون أي مساءلةٍ حقيقية للمسار الذي أفضى إلى قيام تلك الدول الكبرى.
ولم تكن هذه السطحية الفكرية مقصورةً على السياق السعودي، بل نجد فارقًا جوهريًا عند مقارنة المثقف السعودي بنظرائه في دول أخرى، حيث لعب المثقفون دورًا حقيقيًا في التحولات السياسية والاجتماعية. ففي فرنسا، كان المفكرون مثل جان جاك روسو وفولتير وقودًا للثورة الفرنسية، حيث صاغوا أفكارًا تحرريةً ألهمت الجماهير بدلًا من استيراد مفاهيم معزولة. وفي أمريكا اللاتينية، ساهم كتّاب مثل إدواردو غاليانو في تشكيل وعيٍ نقديٍّ ضد الأنظمة العسكرية المستبدة. أما في السعودية، فإن "التنويري" ليس إلا صدىً لإملاءات السلطة، لا يُنتج فكرًا تحرريًا، بل يعيد تدوير خطاباتٍ جاهزةٍ تتبدّل وفق ما تقتضيه الظروف السياسية. وهكذا، يصبح التنويري السعودي مجرد أداةٍ في مشروعٍ سياسيٍ محدد، لا يختلف في وظيفته عن خطيب جمعةٍ قديمٍ كان يبرّر للسلطة الدينية فيما مضى.
أما الليبرالي السعودي، الذي ينادي بالحرية، فيظهر -مع مرور الوقت- أنه أكثر استبدادًا من خصومه؛ فهو لا يسعى إلى نقاشٍ حقيقي، بل يفرض رؤيته قسريًا بأسلوبٍ يشبه التكفير الذي ينتقده لدى الإسلاميين. يقول: "ينبغي أن تتبع الحداثة"، كما يقول الإسلاميون: "ينبغي أن تتبع الدين"، وهكذا تتشابه آليات القمع على الرغم من اختلاف أدواتها. وعندما يعجز عن إقناع الناس، لا يعترف بأن المشكلة قد تكمن في أفكاره، بل يصف المجتمع بأنه غير ناضج وغير مستعد، مصوّرًا الخطأ وكأنه حكرٌ على الآخرين، وليس في أطروحاته ذاتها.
هذه الدوامة لا تنكسر بسهولة؛ فالمعضلة ليست في أن المثقف السعودي عالقٌ فيها وحسب، بل في أنه لا يريد التخلص منها أصلًا، إذ يخشى الفراغ الذي ينتظره لو خرج. فأن يجد نفسه وحيدًا بلا خصمٍ أو معركة يعني أن عليه مواجهة ذاته مباشرةً دون أن يُملي أحدٌ عليه ما يجب فعله، وهو ما يشبه حالة العبد الذي رفض سيده طويلًا، لكنه عندما أُعتق لم يعرف كيف يوظف حريته، فبحث عن سيدٍ جديد.
هذا الخوف العميق من الاستقلال الفكري ليس مجرد ترددٍ شخصي، بل هو نتاج بنية اجتماعية وسياسية رُسِّخت عبر عقود. لقد نشأ المثقف السعودي في بيئةٍ حيث الانتماء إلى تيارٍ أو سلطة فكرية كان شرطًا للقبول الاجتماعي والسياسي، وحيث التفكير المستقل كان يُقابل بالنبذ أو بالعواقب غير المحسوبة. لذا، فإن التحرر من هذه الأطر لا يعني فقط اكتشاف الذات، بل أيضًا مواجهة واقعٍ لم يعتد التفكير فيه بعيدًا عن الإطار السلطوي الذي كان يوجهه.
وهكذا، يظل من يظنون أنهم "تحرروا" محصورين في التنقل بين أشكالٍ مختلفةٍ من الخضوع، لأنهم ببساطة لم يألفوا العيش دون عدوٍ جاهزٍ تُعلّق عليه أسباب وجودهم. إنهم يبحثون عن خصومٍ ليعرّفوا أنفسهم ضدهم، لأنهم عاجزون عن بناء هوية فكرية مستقلة قادرة على الوقوف بذاتها دون الحاجة إلى صراعٍ خارجي يبرر استمرارهم.
وفي وقتٍ لم يُتح فيه للمواطن العادي التفكير خارج هذه الأطر، بقيت الهوية السعودية -كما صيغت تاريخيًا- بمثابة صندوقٍ مُحكم الإغلاق يمنع التساؤل، فيه يعرف المرء من هو "غير السعودي" لكنه لا يدري من يكون هو؛ فهو يفتقر لصورةٍ واضحةٍ عن ذاته، ويقف في خانة "التابع الصامت" الذي يقبل كل ما يُفرض عليه بلا مناقشة. وعندما يُطلب منه أن يصير "مواطنًا عالميًا" أو متسامحًا أو منفتحًا، يُتوقع منه أن ينتقل من دور العبد إلى دور السيد في ليلةٍ وضحاها، دون أن تُمنح له فرصة استكشاف ذاته خارج هذا القفص.
انبهارٌ بما لا يُتأمّل فيه
على الرغم من أن الليبرالي السعودي يتباهى بانبهاره المستمر بالغرب، وبالنموذج الأمريكي تحديدًا، ثمة ما يُثير الارتياب في كونه لا يتناول الثورة الأمريكية بوصفها محورًا للنقاش. فالمسألة لا تتلخص في نقصٍ معرفي أو سطحيةٍ في فهم "العظمة الأمريكية"، بل قد تكمن في عوامل أعمق تتعلق بخضوعه لمنظوماتٍ حكوميةٍ تُعيد تشكيل وعيه في مساراتٍ مرسومة، وتمنعه من التوقف عند لحظاتٍ تاريخيةٍ مفصلية—مثل الثورات الكبرى التي أرست الأنظمة الديمقراطية الغربية التي يدّعي الاقتداء بها.
فحين يتحدث الليبرالي السعودي عن الغرب، تراه يُركّز على الحرية الفردية والتقدم العلمي وسطوة المؤسسات، متجاهلًا دراسة الأطر التي ولّدت هذه القيم، أو التضحيات الضخمة التي قدمتها الشعوب الغربية للحصول على حقوقها. والثورة الأمريكية التي مثّلت تمردًا أصيلًا على الاستبداد البريطاني ولم يكن نجاحها ضربة حظ عابرة، لا تشغل موضعًا فعليًا في وعي هذا الليبرالي؛ فلا ينظر إليها بوصفها نموذجًا للنضال ضد السلطة ولا يعدّها مصدر إلهامٍ فكري. وكأن هذا الغياب ليس صدفةً بل نتيجة تغييبٍ منظّمٍ يتبدى في المناهج الدراسية والخطاب الليبرالي الرائج، والذي يصوّر الحداثة كهديةٍ مفاجئةٍ بدلًا من أن يقرّ بأنها ثمرة صراعٍ طويلٍ مع الحكم المطلق.
ولا يأتي هذا التغييب اعتباطًا، بل يصبّ في مصلحة السلطة التي تستثمر في فكرة "الحداثة المنزوعة من الديمقراطية"، بحيث يُعاد إنتاج النموذج الغربي في هيئته الاستهلاكية من دون المرور بمرحلة التأسيس التي ارتكز عليها. فالدولة—وإن تظاهرت بخطابٍ ليبرالي—تعلم جيدًا خطورة أن يرى المواطن الثورة خيارًا مشروعًا، لذلك يبقى الليبرالي السعودي مبهورًا بالحداثة الغربية من دون أن يجرؤ على تفحّص جذورها، غافلًا عن أنّ ما يسحره فيها ما كان ليوجد لولا لحظة التمرد الكبرى المتمثّلة في الثورة الأمريكية.
وفي النهاية، يبدو الليبرالي السعودي كمن يُصرّ على اقتباس ما يلائمه من الغرب، لا بدافع نقدٍ واعٍ أو انتقاءٍ مدروس، بل بناءً على تشكّلٍ مُسبق يمنعه من رؤية التجربة الغربية إلا في حدود ما يسمح به وضعه السياسي. إنّه يستهلك صورة الحداثة من دون تأمّلٍ في منابعها، ويُضفي على الديمقراطية قداسةً في حين يتجاهل تمامًا ظروف ميلادها.
ولعل أبرز مثال على استيراد المفاهيم الحداثية بشكل انتقائي لخدمة السلطة دون تحقيق تحول حقيقي، هو مشروع "التحديث الثقافي" الذي روّج له بعض المثقفين السعوديين في العقود الأخيرة. فعلى الرغم من تبنّيهم خطاب الحداثة والانفتاح، إلا أن هذه المفاهيم لم تُستخدم لإنشاء فضاء نقدي مستقل، بل جرى توظيفها لتبرير التحولات السياسية القائمة دون مساءلة حقيقية لها. تمامًا كما تم استيراد بعض مظاهر العولمة الاقتصادية في التسعينيات دون أن تصاحبها إصلاحات ديمقراطية حقيقية، كان استخدام خطاب الليبرالية في السعودية أشبه بتجميلٍ شكلي أكثر منه تحولًا جوهريًا. وهذا إن دلّ على شيءٍ، فإنما يدل على أن انبهاره ليس أصيلًا، بل مقيّد بما يُسمح له بالانبهار به، ليبقى التحديث مجرد عملية شكلية تخدم النظام القائم بدل أن تُحدث قطيعةً نقديةً مع الماضي.
مفارقة طاش: كيف كان التيار الليبرالي عالةً على التيار الديني؟
في الوقت الذي بلغ فيه التيار الديني ذروته من حيث النفوذ، قدّم مسلسل "طاش ما طاش" تجربةً نوعيةً للمجتمع، إذ تناول واقعًا اجتماعيًا متأثرًا بسيطرة الخطاب الديني، فلم يقتصر دوره على التسلية الكوميدية فحسب، بل تحوّل إلى أداةٍ نقديةٍ تواكب سلطةً فكريةً كانت تُشكّل هوية الجماعة. ومع أن هذا العرض التلفزيوني بدا امتدادًا لمشروعٍ فكريٍ متجذرٍ في قضايا اجتماعيةٍ حقيقية، فقد تلاشى مع تراجع نفوذ التيار الديني؛ إذ جاءت النسخة اللاحقة، "طاش العودة"، وكأنها حملةٌ حكوميةٌ رسميةٌ خاليةٌ من العمق الفكري أو التأثير الاجتماعي.
لم يصرّح القائمون على العمل عند حديثهم عن أسباب توقفهم عن إنتاج أجزاء أخرى من المسلسل بأي إشارة إلى دور انحسار الخطاب الديني كعامل محتمل لهذا القرار. لم يكن ذلك مجرد تغافل، بل ربما لم يكن هذا العامل واردًا في تفكيرهم أساسًا، إذ اعتادوا النظر إلى نجاح المسلسل بوصفه قائمًا على جرأته النقدية، دون أن يدركوا أن وجود خصم فكري واضح مثل التيار الديني كان جزءًا أساسيًا من ديناميكية تأثير العمل. وهكذا، حين تلاشى ذلك الخصم، لم يكن لديهم السياق نفسه لمواصلة الطرح بذات الزخم الذي ميّز الحلقات السابقة.
وبينما بدأ هذا التيار يخفت في أواخر عهد الملك عبد الله، بدا واضحًا أن خفوته سيقود إلى فراغٍ أكبر. وعندما قرر النظام فيما بعد القضاء على الصحوة، لم يدرك -كما لم يدرك التيار الليبرالي الذي ساند هذه الخطوة- أن الصحوة لم تكن مجرد مجموعةٍ متشددة، بل كانت هيكلًا اجتماعيًا متكاملًا امتدّ إلى المؤسسات التعليمية، والإعلام، والهيئات الدعوية، وحتى الأطر العائلية والقبلية. فقد سيطرت الصحوة على المناهج الدراسية، ورسّخت مفاهيمها في أذهان الأجيال المتعاقبة، ولعبت دورًا رئيسيًا في صياغة الخطاب الديني في المساجد والجامعات، منتجةً رموزًا مؤثرةً في المشهد الثقافي والإعلامي.
وعند محاولات محو آثارها العميقة في المجتمع، واجه التيار الليبرالي حقيقةً قاسيةً: فقد أصبح بلا مشروعٍ حقيقي، وبلا قضيةٍ تثير شرعيته، بعد أن اعتمد طويلًا على ردّ فعلٍ محددٍ تجاه خطابٍ دينيٍّ قوي. لم يكن هذا السقوط مجرد تعثرٍ عابرٍ في التأثير، بل كان بمثابة سقوطٍ وجودي؛ إذ ظلّ التيار الليبرالي مجرّد صدى للتيار الديني الذي هاجمه لسنواتٍ من دون أن يمتلك بديلًا فكريًّا قادرًا على إحداث تحوّلٍ جذريٍّ في الوعي الجمعي.
ومع ذلك، فإن الفراغ الذي خلفه غياب الصحوة لم يمنع ظهور محاولاتٍ لملئه؛ فقد برزت تياراتٌ بديلةٌ تسعى لإعادة تشكيل الهوية الثقافية للمجتمع، بعضها كان امتدادًا للسلطة نفسها، فيما حاولت شخصياتٌ مستقلةٌ خلق فضاءٍ فكريٍّ مختلف. غير أن هذه المحاولات ظلّت مشتتةً وغير قادرةٍ على الحلول محل الصحوة في التأثير الاجتماعي العميق، ما جعل المجتمع السعودي يواجه تحولاتٍ سريعةً دون إطارٍ فكريٍّ متماسكٍ يرشد هذه المرحلة.
فراغ ما بعد الصحوة 
إذا كان سؤال الهوية هو نقطة الانطلاق، فإن السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يملك المواطن السعودي أصلًا رفاهية البحث عن ذاته؟ ليس الأمر تأملًا نظريًا، بل واقعٌ نتج عن صراعاتٍ سياسيةٍ ودينيةٍ واجتماعية متداخلة، لم تُتح للفرد فرصةً كافية ليعيد تحديد موقعه بتأنٍ. عاش السعودي دائمًا تحت ضغط الاستجابة لظروفٍ مفروضةٍ عليه، من دون فسحةٍ لمساءلة ذاته أو محيطه. 
هو أشبه بشخصٍ أُخرج فجأةً من عتمةٍ إلى ضوءٍ ساطعٍ بلا تمهيد، فيعجز بصره عن التكيف. تمامًا كما حدث مع مجتمعات خرجت من استبداد طويل إلى فضاء حرية غير مألوف، مثل روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث وجد الأفراد أنفسهم أمام نظام جديد دون سياق ثقافي واجتماعي يمهّد لهذا التحوّل، مما أدى إلى فوضى فكرية وشعور بالضياع. ومع مرور الوقت، ظهر صراع بين محاولات استعادة الهوية القديمة والاندفاع نحو نماذج رأسمالية ليبرالية لم تكن مهيأة بالكامل للمجتمع، مما خلق مرحلة من التفكك الاجتماعي والسياسي استمرت لعقود، حتى استطاعت روسيا تشكيل نموذجها السياسي والاقتصادي الجديد، وإن كان على حساب الكثير من المبادئ التي بُنيت عليها تلك الحرية الوليدة. لم تُهيّأ عيناه للتعامل مع هذا الضوء، ولم يُجهّز وعيه للخروج إلى فضاءٍ جديد. هكذا يبدو حال السعودي في اللحظة الراهنة؛ لم يعد الدين، ولا الوطن، ولا الحرية، ولا حتى الحداثة، ركائزًا ثابتةً يُطمأنّ إليها في ظل التحولات المتسارعة والتناقضات المتراكمة التي فُرضت عليه بلا مقدماتٍ تسمح له بالاستيعاب. 
وبينما يتشظى الأفراد أمام هذا الواقع، تظهر الدولة بوصفها الطرف الوحيد الذي يملك تصورًا واضحًا لمسار المستقبل، إذ تُعيد رسم المجتمع وفق رؤيتها، من غير أن تطلب من المواطن فهم هذا التغيير أو المشاركة في صياغته. يُفترض بالسعودي أن يتغيّر دون أن يُمنح حق التساؤل أو الاعتراض؛ فهو عالقٌ بين إرادة السلطة التي تدفعه في اتجاهٍ مجهول، وإرادةٍ ذاتيةٍ لا تعرف كيف ترتسم أو أين تنتهي.
أما المثقف السعودي، أو ما يُسمّى بـ"(التنويري)"، فقد انتهت فاعليته بعدما كان محصورًا أصلًا في دور ردِّ الفعل تجاه الصحوة. فمع غياب هذا التيار، أضحى "المثقف الليبرالي" عاريًا عن القضية التي غذّت وجوده، وبلا رؤية يستند إليها أو جمهورٍ يعوّل عليه. صارت وظيفته محدودةً في تبرير التحولات السياسية عند اللزوم، ثم الانزواء متى استُغني عنه. وبات مجرد واجهةٍ خاوية تُستدعى لترديد ما ترغب السلطة في تسويقه، من غير أن تمتلك قاعدةً فكريةً مستقلة أو أهدافًا واضحة.
والنتيجة؟ مجتمعٌ بلا بوصلةٍ ثقافيةٍ أو فكرية، وأجيالٌ جديدةٌ لا تجد أمامها نماذج معرفية ذات ثقلٍ حقيقي، ولا نقاشًا عامًا تقوده عقولٌ نقدية. فكل شيء يُقدَّم جاهزًا للاستهلاك، والمثقف ذاته تحوّل إلى مستهلكٍ لمحتوى دعائي، يعيد تكراره بدل المشاركة في إنتاجه. يتجلى هذا في الخطابات الإعلامية التي تُعيد إنتاج نفس الروايات الرسمية تحت غطاءٍ نقديٍ زائف، حيث يتحول النقاش العام إلى دائرة مغلقة من الشعارات، لا تتيح أي مساحة لإبداعٍ فكريٍ حقيقي. على سبيل المثال، تُناقش قضايا الحريات أو الإصلاحات الاجتماعية في بعض البرامج الحوارية، لكن ضمن حدود مرسومة سلفًا، حيث يبدو النقد وكأنه موجّه لكنه في الواقع لا يخرج عن نطاق الخطاب الرسمي. 
كذلك، نجد في الصحافة مقالاتٍ تتبنى نبرة نقدية تجاه قضايا مجتمعية، لكنها في جوهرها لا تقدم أي تحليلٍ مستقل، بل تعيد تدوير نفس الحجج بطريقة مختلفة، مثل الحديث عن "تطور المجتمع" دون التطرق إلى أي معوقات بنيوية حقيقية. حتى منصات التواصل الاجتماعي، التي يُفترض بها أن تكون متنفسًا للنقاش الحر، أضحت انعكاسًا لهذه الآلية، حيث يتم تداول نفس العبارات والمفاهيم دون مساءلة أو تطوير. وهكذا، يتحول المثقف من منتجٍ للأفكار إلى ناقلٍ غير واعٍ لمحتوى متكرر، لا يضيف إليه شيئًا سوى تغيير الصياغة. لم يعد للمثقف ذاك الدور القديم في صناعة الوعي أو التأثير على الفضاء العام، وإنما تحول إلى ببغاءٍ رسمي، يقول ما يُطلب منه ثم يعود إلى الظل.
وهكذا، أصبح السعودي أمام حريةٍ طالما مُنع منها، لكنه يكتشف اليوم أنه لا يعرف ما يفعل بها. فحين غابت سلطة الإلزام التي تدله على الطرقات، لم يملك بديلًا يعوّضه. مع ذلك، ظهرت محاولات فردية لصياغة مشاريع فكرية جديدة، وإن كانت لا تزال في بداياتها. فبينما لجأ البعض إلى استكشاف هويتهم من خلال الفنون، والأدب، والنقاشات الفلسفية، ظل آخرون أسرى الماضي، يبحثون عن يقين يعوّض الفراغ الذي خلّفته التحولات السريعة. هذه الجهود الفردية، رغم تشتتها، تشكّل ملامح بحثٍ غير مكتمل عن مسارٍ جديد، قد يثمر في المستقبل عن تيار فكري مستقل، قادر على تجاوز الأطر القديمة التي حكمت المشهد الثقافي لعقود. لم يعد هناك مشروعٌ محددٌ أو تيارٌ فكريٌ واضح يمكن أن يلجأ إليه، بل يواجه فراغًا يدفعه نحو أحد خيارين: إما طاعةٌ عمياءٌ للاتجاه المرسوم، أو رفضٌ سطحيٌ ينحصر في التمرّد والاعتراض بلا بُعدٍ بنّاء. وفي كلتا الحالتين، يظل سؤال الهوية بلا إجابة:كيف تُعرّف نفسك إذن، بعيدًا عما فُرض عليك وعما يتلاشى من حولك؟
طوبى للغرباء!
قد يبدو هذا المقال كما لو أنه يصدر أحكامًا مطلقة، لكنه في جوهره محاولة لالتقاط ظواهر عامة دون الانشغال بالاستثناءات التي قد تشتت الصورة الكلية. فالتعميم، رغم ما قد يبدو عليه من إطلاق، يُستخدم أحيانًا كأداة تحليلية لتوضيح الاتجاهات الفكرية العامة ورصد التحولات الكبرى، دون أن يضيع القارئ في تفاصيل فردية قد تحجب الرؤية الأشمل. فنجد، على سبيل المثال، أن دراسات علم 
الاجتماع والسياسة تعتمد على التعميم لرسم ملامح التحولات الثقافية والمجتمعية، كما فعل ماكس فيبر عندما حلّل البيروقراطية كظاهرة عامة، رغم اختلاف تطبيقاتها بين الدول. فلو كان المقام مقام بحث علمي أو دراسة أكاديمية، لكان التفصيل والتدقيق أمرين حتميين، أما حين يكون الهدف هو التعبير عن السياقات الكبرى والتوجهات العامة، يصبح التعميم وسيلة مشروعة -بل وضرورية- لإيصال الفكرة بوضوح.
لكن حتى مع هذا التعميم، لم يكن المقصود جميع المثقفين السعوديين، بل تحديدًا أولئك الذين تماهوا مع السلطة حتى فقدوا استقلالهم الفكري، فصاروا امتدادًا وظيفيًا لها بلا مشروع مستقل. أما أصحاب الإسهامات الحقيقية، فهم خارج هذا التصنيف تمامًا، لأنهم رفضوا أن يكونوا جزءًا من هذه اللعبة. ومن بين هؤلاء نجد مثقفين اختاروا العمل البحثي المستقل، وآخرين أسسوا مشاريع فكرية عابرة للحدود المحلية، مثل النقاد والمفكرين الذين تناولوا القضايا الإنسانية والكونية دون أن ينحصروا في الجدل السياسي الضيق، متجاوزين بذلك الاستقطابات المفروضة عليهم. يمكن أن نذكر هنا شخصيات سعودية مثل عبد الله العروي الذي أثرت كتاباته الفكرية في مجمل الخطاب العربي الحديث، أو عبد الرحمن منيف الذي تجاوز في أدبه حدود النقد المحلي إلى فضاء عربي واسع، ما جعله رمزًا للأدب المقاوم للطغيان والتبعية. إنهم أولئك الذين لا ينسبون نشاطهم إلى "سعودية" محدودة، بل تجاوزوا التصنيفات المحلية، ولم يرضخوا للاستقطاب السياسي أو الفكري المفروض. فالغريب، بهذا المعنى، ليس من يعارض النظام السياسي صراحةً، بل من لا يؤسس ذاته على الهوية المفروضة عليه، ويبحث عن فضاءٍ معرفي يتجاوز الأطر الرسمية. فالغربة ليست حالة اغترابٍ عن المجتمع بقدر ما هي شرطٌ ضروري للتعافي من أمراض الطغيان السياسي، وهي مسألة لا يجب التساهل في تأمل ضرورتها للصحة النفسية والمعرفية والذهنية. نجد أمثلة على ذلك في مثقفين مثل إدوارد سعيد، الذي رفض الانحصار في هوية قومية محددة وسعى إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الشرق والغرب، أو نجيب محفوظ، الذي استطاع أن يحافظ على مسافة نقدية من الأنظمة الحاكمة في مصر، مما سمح له بإنتاج أدب عابر للزمن والحدود. هؤلاء لم يكونوا مجرد معارضين، بل كانوا غرباء عن التصنيفات السائدة، وبهذا المعنى، أصبحوا أكثر قدرة على رؤية الواقع بوضوح والتفاعل معه بعيدًا عن قيود الانتماء المفروض. إنهم يعملون خارج القوالب الجاهزة، وبعيدًا عن مظاهر "التنوير" الفارغة من مضمونها وعن استبداد الصحوة في زمنها السابق.
لهذا، فإن المقال لا يتناول الجميع، بل يركّز على أولئك الذين قبلوا أن يكونوا أدوات في صراعٍ يفوقهم حجمًا. ورغم ذلك، يظنون أنهم متحررون من قواعده، غير مدركين أنهم مجرد امتداد لمنظومة أوسع تتحكم في مساراتهم. أما الذين اختاروا لأنفسهم دربًا خارج هذا الصراع، فطوبى لهم. طوبى لمن أدركوا أن الفكر لا يُقاس بمدى انسجامه مع السلطة أو رفضه لها، بل بقدرته على إنتاج معرفةٍ حرة. فالمثقف المستقل لا ينحصر في ثنائية الولاء أو الخصومة، بل يسعى إلى تجاوزهما، ليكون فكره غير مقيّد بإملاءات أي طرف. ولعل شخصيات فكرية مثل عبد الرحمن الكواكبي، الذي رفض الخضوع لأنظمة الاستبداد وكرّس فكره لنقد الطغيان، أو جان بول سارتر، الذي تحدّى التصنيفات الأيديولوجية واحتفظ باستقلاليته الفكرية، يمثلان نماذج حية للمثقفين الذين فضّلوا اتباع قناعاتهم بعيدًا عن هيمنة السلطة أو ضغوط المعارضة التقليدية. ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة مثقفين معاصرين مثل نعوم تشومسكي، الذي لم يتردد في نقد السياسات الأمريكية رغم مكانته الأكاديمية، أو أمل دنقل، الذي عبّر في شعره عن التمرّد على القوالب الفكرية السائدة، مما جعله صوتًا مستقلًا خارج الأطر السياسية التقليدية.