في لقاء رسمي بجامعة أكسفورد، وقف السفير السعودي لدى المملكة المتحدة، الأمير خالد بن بندر بن سلطان، ليقول بلسانٍ لا يثقل كاهله معنى التاريخ ولا مآلاته: "نحن قبيلة من البدو فزنا بالحرب."
تصريح كهذا لا يُقال عرضًا، ولا يصدر من شخص عادي في منصب عادي، بل من رأس البعثة الدبلوماسية لأحد أهم حلفاء الغرب في المنطقة، وفي واحدة من أعتق الجامعات التي تُشكّل الرأي النخبوي الغربي. فأن يصدر هذا الكلام من دبلوماسي بهذا الموقع، فهذا ليس سهوًا، بل انعكاس لطريقة تفكير السلطة في ذاتها، ولا بد أن يُقرأ كرسالة، لا كخطأ.
ولكي نفهم السياق، لا بد من تأمل شخصية صاحب التصريح. هو سليل أسرة تحكم باسم التاريخ، دون أن تعيه. ينتمي إلى جيل سياسيين عرب فقدوا حتى القدرة على الكذب المُتقن، أولئك الذين يشكلون طابورًا خامسًا لا يُجيد حتى أداء وظيفته.
فالتصريح لم يكن استرضاءً ناجحًا للغرب، بل كارثة رمزية تُظهر أن حتى العملاء –بكل ما تعنيه الكلمة من دقة– لا يعرفون كيف يُرضون سادتهم. إذ كيف يقدّم نفسه كمنتصِر قبَلي في زمن ما بعد الحداثة؟ أي سذاجة سياسية هذه التي تحاول إقناع الغرب بأن الدولة الحديثة قائمة على انتصار قبيلة؟ الغرب نفسه يرى هذا التصريح فظيعًا، لا لأنه لا يعرف ما حدث، بل لأنه يدرك أن من قاله يعتقد أنه يُحسن صنعا.
لكن الحقيقة، حتى بلغة التاريخ، تُكذّب هذا الزهو الأجوف. آل سعود ليسوا قبيلة. لا بالمعايير الأنثروبولوجية، ولا بالعلاقات الاجتماعية، ولا حتى في السرد الشفهي. هم أسرة سياسية انحدرت من تكوين جزئي داخل عنزة أو بني حنيفة، لم تكن يومًا صاحبة ثقل قبلي حاسم. بل على العكس، لو كانت المرجحات القبلية وحدها هي العامل الحاسم، لما كان لهم أن يصلوا إلى شيء. القبائل الكبرى آنذاك، عنزة، شمر، عتيبة، مطير، كانت تفوقهم عددًا وعتادًا وأصالة نسب. بل حتى على مستوى النسب، آل سعود عانوا من إحراجات كثيرة ظلت تُتداول في المجالس والصراعات التاريخية، لكنهم أخفوها بقوة السلطة. أما اليوم، فإن سلوكهم، بما فيه هذا التصريح، يدلّ دلالة ساطعة على حقيقتهم، فإذا كان النسب يُقاس بالسلوك، فإن هذا التصريح، مضافًا إلى القمع والتجويف الرمزي، يُرجّح كفة من طعن في نسبهم، لا من دافع عنه.
ثم من قال إن هذا التصريح ناتج عن قراءة في التاريخ؟ إنه، بالحقيقة، كشف عن نوايا النظام لا عن ماضيه. ليس وصفًا لما جرى، بل تطلع لما ينبغي أن يكون: أن تحكم كما لو كنت قبيلة فازت بالسيف. لا منطق ولا شرف ولا سياسة، فقط غلبة. إنه تصريح لا يُفصح عن الماضي، بل عن المشروع السياسي المعتم الذي تسير الدولة إليه. مشروع لا أخلاق فيه، لا بدوية ولا مدنية، بل نوع من الوقاحة المبرمجة التي تُريد أن تسلب الوطن من كل من سكنه، وكل من شارك في صناعته.
بل لو عدنا إلى أخلاق البدو أنفسهم، وإلى مروءة القبائل، لرأينا أن هذا السلوك ينقض كل شرف قبلي معروف. فالسيف في المنطق البدوي لا يُستعمل للتباهي بالاستبداد، بل لرفع الظلم. والمنتصر لا يتباهى أمام من نصره، بل يعترف بفضلهم. لكن هنا، نحن أمام فئة تُريد أن تمحو كل أثرٍ للناس، كل جهدٍ للأرض، كل أثر للمعنى. تُريد أن تكتب تاريخًا لا يشاركها فيه أحد، حتى على مستوى الخيال.
إننا لا نتحدث عن سذاجة فقط، بل عن نظام فقد حتى حاسته السياسية البدائية. لم يعُد فيه دهاء، لا من النوع الذي كان يمتلكه عبدالعزيز، ولا من النوع الغريزي الحيواني الذي يجعل المخلوق يتفادى الخطر. إنهم لم يعودوا يملكون حتى غريزة الحكم. حتى إن كانت هناك لحظة انتصار، فهي فلْتة كما قالها عمر عن السقيفة. لكن الفرق أن المنتصرين اليوم يكذبون بعد أن تحدثوا. لا لشيء، إلا لأنهم لا يملكون أي تصور للاستمرار، بل يريدون أن يجهزوا على كل شيء بأيديهم، وكأنهم يهدون الأرض للعدم.
وما العجب في أن يقولها السفير، ونحن في زمن سلمان؟ الملك الذي لا يكفّ عن ترديد: "أخذناها بالسيف". حماقة لفظية لا تُشبه إلا مَن نطق بها. طاغية يتصوّر نفسه مؤرخًا، والمأساة أن تاريخه لا يخدمه. بل إن من عرفه من إخوته، وحاولوا طيلة سنوات منعه من الوصول إلى الحكم، كانوا على حق. لقد رأوا فيه الحماقة، والقصور، والرعونة التي تُسقط الدولة، لا تبنيها.
إنه لا يدري، وربما لا يمكنه أن يدري، أن هذا الكلام، حين يُقال، لا يعني إلا شيئًا واحدًا: أن كل من يستطيع أن يحمل السيف، له الحق أن ينازعك الحكم. إنها شرعية السيف، شرعية الأمر الواقع، شرعية من لا يرى المستقبل، لأن الدول لا تقوم على اللحظة، بل على ما بعدها. الدول، إن جاز التعبير، تعيش في الغد، لا في الأمس. لكن سلمان يرى الدولة كما في المعجم العربي: ما تتداوله الأيدي. دولته ليست state، بل دَولة... غنيمة، لا وطن.