سلطت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، الضوء على التحول في العلاقات بين الإدارة الأميركية الحالية التي يرأسها جو بايدن، والمملكة العربية السعودية التي يقودها فعلياً ولي العهد محمد بن سلمان، من العداء الذي أبداه بايدن خلال جملته الانتخابية السابقة بوعيده بأن يجعل المملكة منبوذة، إلى الصداقة.
وأشارت إلى تحذير بايدن السعودية بعواقب، خلال مقابلة مع شبكة سي إن إن في خريف عام 2022، بعد أسبوع من إعلان المملكة عن تخفيضات كبيرة في إنتاجها النفطي، إذ خشي من أن تؤدي هذه الخطوة إلى رفع أسعار النفط الخام وسط الاضطرابات الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا، والتي اعتبرها مسؤولين أميركيين صفعة على وجه إدارة بايدن.
ولفتت الصحيفة إلى أن بايدن اعتبر الأمر شخصياً، حيث جاء خفض الإنتاج الذي أعلنته منظمة النفط التي تقودها السعودية "أوبك بلس"، بعد ثلاثة أشهر فقط من المغامرة برصيده السياسي من خلال السفر إلى المملكة لإجراء محادثات مع ولي العهد، الذي رفض الرئيس في السابق التعامل معه، ما دفعه للتلويح باجراء "مراجعة" أخرى للعلاقة.
وأكدت أن "العواقب" التي هدد بها بايدن لم تتحقق أبدًا، وما كان يمكن أن يكون قطيعة أصبح مجرد انتكاسة في محاولات كلا الجانبين لإعادة بناء العلاقة الثنائية، وقد ازدهرت العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في الأشهر التي تلت ذلك مع تحول المملكة من دولة منبوذة إلى ما يصفه مسؤولو الإدارة أحد أهم شركاء واشنطن العالميين.
وقالت الصحيفة إن مثل هذا التقارب – على الرغم من أنه مستحيل مع استمرار الحرب بين إسرائيل وحماس – إلا أن اتفاق الدفاع الأميركي السعودي الذي طال انتظاره من شأنه أن يمنح بايدن إنجازًا مميزًا في السياسة الخارجية.
وأوضحت أن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن هذا قد يكون جزءا أساسياً من حل مستدام للأزمة في غزة ويقول مسؤول كبير في إدارة بايدن: "الشيء الوحيد المؤكد الذي سيبقي الطريق إلى حل الدولتين حياً هو تأثير المملكة العربية السعودية"، مضيفًا "إنه الشيء الوحيد الذي يحرك الإسرائيليين حقًا".
وقالت الصحيفة البريطانية، إن الشرق الأوسط المضطرب يجذب رؤوساء الولايات المتحدة على الدوام، حتى وهم يسعون إلى الابتعاد عن المنطقة، وهو العامل الذي أصبح موضع تركيز أكبر بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والذي أشعل فتيل حرب الحركة مع إسرائيل.
وأضافت أن الشرق الأوسط المضطرب يؤكد على أهمية الطاقة القادمة من الخليج بالنسبة للسياسة الداخلية الأميركية، وبالرغم من أن الولايات المتحدة خفضت اعتمادها على واردات النفط، فإن ما يحدث في الشرق الأوسط لا يزال يؤثر على الأسعار العالمية.
وأكدت الصحيفة أن في جوهر هذا التغيير كان هناك إدراك سياسي واقعي في واشنطن مفاده أن السعودية كانت مهمة للغاية في لعبة المنافسة بين القوى العظمى، بحيث لا يمكن تجاهلها، بالرغم من وجود مخاوف من أنه إذا لم تتعامل الإدارة مع الرياض، فإن الحليف التقليدي للولايات المتحدة سوف يذهب وبشكل أعمق نحو مداري الصين وروسيا.
وأوضحت أن العلاقات الأميركية السعودية مرت بأعلى مستوياتها وأدنى مستوياتها على مر العقود، لكنها تحسنت بشكل ملحوظ بعد أن خلف الرئيس دونالد ترامب أوباما واتبع علاقة قائمة على المصلحة المادية البحتة مع الرياض.
وذكرت بأن الرئيس الجمهوري قام بأول رحلة خارجية له إلى المملكة ووقع صفقات أسلحة بمليارات الدولارات، كما قال ترامب في عام 2018، بعد أسابيع فقط من القتل الوحشي للصحفي السعودي المقيم في الولايات المتحدة جمال خاشقجي في تركيا على يد عملاء سعوديين: "لقد كانوا حليفًا عظيمًا في معركتنا المهمة جدًا ضد إيران".
ولفتت الصحيفة إلى أن بايدن انقلب على الرياض 180 درجة وتعهد خلال حملته الانتخابية بإعادة تقييم العلاقات مع أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، ووعد بجعل الرياض "تدفع ثمن" مقتل خاشقجي، كما اتهم بايدن المملكة بـ"قتل الأطفال" في إشارة واضحة إلى حرب السعودية في اليمن.
وذكرت بأن بايدن بمجرد وصوله إلى منصبه، بدأ في تنفيذ تهديداته، وبعد أسبوع من تنصيبه، علق مبيعات الأسلحة الهجومية للمملكة، وبعد شهر، سمح بإصدار تقرير استخباري سري خلص إلى أن الأمير محمد، الزعيم الفعلي للمملكة، وافق على مهمة "القبض على خاشقجي أو قتله". (ألقت الرياض باللوم في جريمة القتل على "عملية مارقة").
وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن خطوط الاتصالات ظلت مفتوحة في الكواليس، وقام كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط والمخضرم في الإدارات السابقة، بريت ماكغورك، برحلة مبكرة إلى المملكة في محاولة لطمأنة السعوديين بهدوء بأن الأمور ستتحسن بعد بضعة أشهر.
ولفتت إلى أن الرياض اتخذت خطوات اعتبرتها واشنطن بمثابة مبادرات نحو التقارب مع الرئيس الجديد، فقبل وقت قصير من تنصيب بايدن، رفعت السعودية الحظر الإقليمي الذي فرضته على قطر لأكثر من ثلاث سنوات، وهي حليف رئيسي آخر للولايات المتحدة، مما ساعد على تعزيز تحول المزاج على مستوى المنطقة نحو وقف التصعيد بين القوى المتنافسة في الشرق الأوسط واطلقت الرياض في فبراير/شباط 2021 الناشطة السعودية البارزة لجين الهذلول.
وأوضحت الصحيفة أن العلاقات كانت لا تزال متوترة عندما أرسل بايدن مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان، إلى المملكة في سبتمبر من ذلك العام، وناقش المسؤولون الأمريكيون مبدئيًا إمكانية عقد اجتماع بين بايدن والأمير محمد في اجتماع مجموعة العشرين في روما في الشهر التالي، لكن هذه الخطط أبطلت عندما اختار ولي العهد عدم حضور القمة شخصيًا.
وأكدت أن الكثيرين في الإدارة، بما في ذلك وزارة الخارجية، ولا يزالون يعارضون تكثيف التعامل مع الأمير محمد، لكن أولئك الذين زعموا أن البراغماتية تفوقت على الغضب الأخلاقي فازوا باليوم.
وأشارت إلى أن بايدن أرسل كبير مستشاري الطاقة في البيت الأبيض وأحد الشخصيات الإدارية القليلة التي لديها خلفية في صناعة النفط والغاز، ماكغورك وعاموس هوشستين، إلى المملكة في يناير/كانون الثاني 2022، قبل أسابيع من دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا وقام الرجلان بزيارات متكررة للمملكة منذ ذلك الحين.
وقالت تايمز، إن مع تحسن العلاقات مؤقتًا، طرحت إدارة بايدن فكرة التوصل إلى اتفاق كبير للسعودية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وكانت الجزرة بالنسبة للرياض والتي أزعجتها منذ فترة طويلة ما تعتبره عدم القدرة على التنبؤ بالولايات المتحدة والافتقار إلى التزام أميركي واضح بأمن الخليج عبر معاهدة دفاعية مماثلة لتلك التي تتقاسمها الولايات المتحدة مع اليابان، والتعاون مع برنامجها النووي المدني الناشئ.
وأشار إلى بدء مناقشات أيضًا بشأن رحلة محتملة لبايدن إلى المملكة، وفي نهاية المطاف تمت رحلة بايدن إلى جدة في يوليو، بعد أسابيع من موافقة أوبك بلس على زيادة متواضعة في إنتاج النفط الخام، وهو أمر دفعت واشنطن من أجله على أمل احتواء أسعار النفط.
وأضافت الصحيفة أنه كان هناك اتصال ضئيل بين الطرفين لأشهر عدة، وتعاملت الرياض ببرود مع واشنطن واستضافت الرئيس الصيني شي جين بينغ في قمة في ديسمبر/كانون الأول، مما أكد علاقاتها المزدهرة مع الدولة التي أصبحت على مدى العقدين الماضيين أكبر مشتر للنفط في المملكة وأكبر شريك تجاري لها.
ونقلت عن مسؤول سعودي، قوله إن العلاقة بين الرياض وواشنطن "أفضل مائة مرة مما كانت عليه عندما جاءت هذه الإدارة"، قائلة إن بالنسبة لكل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، سيكون الإنجاز الأهم لهذه العلاقة المنشطة هو اتفاق التطبيع مع إسرائيل الذي يعمل الجانبان من أجله.